إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2020

الوجيز في القانون الدولى العام - الجزء الاول - أد محمد حافظ غانم

  

 


الوجيز في القانون الدولي

أ.د. محمد حافظ غانم
استاذ القانون الدولى

 بجامعه عين شمس 


 

الجزء الاول


Text Box: القانون الدولى العام

 

 


تمهيد :-

       القانون الداخلى والقانون الدولى :-

ينقسم القانون إلى فرعين رئيسين وهما القانون الداخلى والقانون الدولى

ويقصد بالقانون الداخلى مجموعة القواعد القانونية التى تنظم المجتمع الوطنى وهذه القواعد تحمى المصالح المباشرة لدولة معينة، وتعبر عن ارادة تلك الدولة فى المجال القانونى الداخلى، ويشتمل القانون الداخلى على فروع متعددة يتولى بعضها تنظيم العلاقات الخاصة بين الافراد كقواعد القانون المدنى أو التجارى، ويتولى البعض الآخر تنظيم السلطات العامة الوطنية وعلاقة الأفراد بتلك السلطات كقواعد القانون الدستورى والادارى

أما القانون الدولى فهو يحتوى على القواعد القانونية التى تنظم المجتمع الدولى، وهذه القواعد تحمى المصالح المشتركة للدول وتنظم علاقاتها فيما بينها ومع المنظمات الدولية. ومن الواضح أن القانون الدولى العام لايعبر عن ارادة دولة واحدة بل اتفاق صريح أو ضمنى تم تم بين الدول .

ومن الممكن التميز بين فرعين من فروع القانون الدولى وهما :

( أ ) القانون الدولى العام : وهو يحتوى على القواعد والمبادئ القانونية التى تحكم حقوق والتزامات الدول فى علاقاتها المتبادلة .

( ب ) قانون التنظيم الدولى : وهو يبين طريقة أنشاء المنظمات الدولية، ويحدد أنواعها، ويحكم نشاطها وينظم علاقاتها بالدول الأعضاء وبغيرها من الدول، ويحدد علاقات المنظمات الدولية فيما بينها .

وقواعد التنظيم الدولى حديثة نسبياً حيث أن المنظمات الدولية لم تظهر فى المجتمع الدولى بصورة فعالة ومحسوسة الا منذ الحرب العالمية الأولى ،

ومع عدم قدم العهد بقواعد التنظيم الدولى نجد أنها تأكدت وازدادت أهميتها بعد الحرب العالمية الثانية، فقد استقر العرف الدولى على أن هناك قواعد قانونية تحكم تأسيس ونشاط المنظمات الدولية، وعلى أن تلك القواعد تدخل فى نطاق القانون الدولى .

ومن الملاحظ أننا إذا استعملنا اصطلاح القانون الدولى على اطلاقه، تحدد المعنى بالقانون الدولى العام وبقانون التظيم الدولى . وبهذا نستبعد القانون الدولى الخاص وهو ذلك الفرع من القانون الداخلى الذى يحدد القواعد الخاصة بالجنسية، كما يحدد القانون الواجب التطبيق والمحاكم المختصة فى العلاقات القانونية الخاصة التى يوجد فيها عنصر أجنبى كعلاقة زواج بين وطنى وأجنبية وكعقد بيع بين أفراد مختلفى الجنسية .

وهذه العلاقات التى تتم بين الأفراد لا تتصل مباشرة بالعلاقات بين الدول ذات السيادة، ولكن هذا لا ينفى وجود بعض الالتزامات .

وسوف يقتصر مؤلفى هذا على قواعد القانون الدولى العام، أما قانون التظيم الدولى فقد عالجته فى مؤلف مستقل .

 

                                       الباب الأول

                          المجتمع الدولى والقانون الدولى

نشأت قواعد القانون الدولى نتيجة لاشتراك شعوب العالم فى تكوين مايسمى بالمجتمع الدولى . ولقد تأثرت تلك القواعد فى مبادئها وصنعتها بظروف المجتمع الدولى واحتياجاته . ومن المفيد لكى نحدد طبيعة القانون الدولى العام، أن نعطى فكرة واضحة عن المجتمع الدولى .

ولما كان المجتمع الدولى – شأنه فى ذلك شأن المجتمعات الوطنية – نوع من المجتمعات السياسية، فيجب علينا أن نحدد أولا ما هية المجتمع السياسى، تمهيداً لمعرفة المجتمع الدولى وللمقارنة بينه وبين المجتمع الوطنى .

 

                                 **الفصـــل الأول**

تكونت المجتمعات السياسية منذ قديم الزمان نتيجة لاستقرار جماعات من البشر فى أقليم معين، وخضوع كل جماعة لنظام قانونى ولسلطة عليا .

ويتميز المجتمع السياسى عن غيرة من التجمعات الانسانية بنشوء سلطة متميزة فى داخل المجتمع تتولى المحافظة على رابطة التضامن بين أعضائه عن طريق وضع قواعد قانونية والزام الأفراد باتباع هذه القواعد بما تملكه من وسائل القهر والجبر. والصورة التقليدية للمجتمع السياسى هى الدولة، ويضاف إلى الدولة المجتمع الدولى، فقد توافرت فيه عناصر المجتمع السياسى .

 

                                 ** البحث الأول **

                              عناصر المجتمع السياسى

ومن اللازم لكى يتحول مجتمع انسانى إلى مجتمع سياسى توافر ثلاثة عناصر جوهرية وهى :

 ( 1 ) التضامن الأجتماعى :-

       يتكون كل مجتمع سياسى من أفراد ، أو مجموعات من الأفراد تجمعهم رابطة التضامن الاجتماعى ، وهذه الرابطة هى التى تدفعهم إلى المعيشة المشتركة، وتجمل لهم أهداف موحدة وروح جماعية تظهر بصفة خاصة فى وقت الأزمات . ويعمل التضامن بين أفراد المجتمع السياسى بطريقتين :

  ( أ ) طريقة آلية ( التضامن للتشابه ): يجمع التشابه الجنسى والتاريخى والعنوي بين الأفراد، وتقوى هذه الصلة وتشتد كلما صغر المحيط الاجتماعى، وتضعف تدريجياً كلما ازداد المجتمع اتساعا .

 ( ب ) طريقة موضوعية ( التضامن لتقسيم العمل ) : يرتبط أفراد المجتمع بصلة أخرى تختلف عن الأولى فى بعدها عن العاطفة، وتأسيسها على قواعد ذات طابع اقتصادى، وتستلزم هذه الصلة تقسيم العمل فى داخل الجماعة، والتخصص فى الأنتاج وقيام المعاملات والمبادلات بين الأفراد .

ومن الثابت أن رابطة التضامن الاجتماعى حينما تكون قوية فأن ذلك يؤدى إلى تماسك المجتمع واستمرار تطوره فى كافة المجالات .

  2- النظان القانونى :

       لا يكون التعامل بين أفراد المجتمع ممكناً إلا إذا وجدت قواعد ملزمة الغرض منها نشاط المجتمع وتوجيهة إلى ما فيه الخير العام .

فالنظام القانونى للمجتمع السياسى عبارة عن مجموعة القواعد التى تنظم سلوك أعضاء المجتمع، وتحدد المبادئ والاهداف التى يسعى المجتمع إلى تحقيقها وطرق الوصول إليها

ولقد بلغ النظام القانونى الوطنى درجة كبيرة من الفاعلية بحيث أصبح يتميز بأمرين: إولهما أنه نظام تفرضة سلطة عليا مختصة، وثانيهما أنه نظام دقيق كامل يحتوى على قواعد تحكم مختلف أنواع العلاقات القانونية بصورة تخدم مصالح المجتمع كما تمضمن حقوق الأنسان .

3 – السلطات :

       لاتكفى العناصر السابقة لاستكمال التكوين القانونى للمجتمع السياسى، فالتطوير التاريخى يؤكد ضرورة ظهور سلطات عليا وظيفتها الاشراف على سير المجتمع بطريقة منظمة ودائمة .

وتمارس هذه السلطات ثلاثة أنواع من الوظائف على النحو التالى :

( أ ) سلطات مشرعة : ونعنى بها هيئات وظيفتها وضع القواعد التى تنظم اختصاصات الأفراد، وتحكم كيفية سير الجماعة ومدى نشاطها، كالبرلمانات الوطنية أو المجالس التشريعية المحلية .

( [ ) سلطات قضائية : وهى هيئات وظيفتها التحقق من التوافق بين القواعد القانونية الموضوعة لحكم الجماعة وبين مدى وكيفية تطبيقها بواسطة الأفراد والجماعات . ومن أمثلة هذه الهيئات مجلس الدولة أو المحاكم القضائية العادية. والقضاء كقاعدة عامة لا يضيف جديدأ للنظام القانونى، وانما تقتصر مهمته على الفصل مدى احترام هذا النظام وفى النتائج التى تترتب على الاخلال به .

( جـ ) سلطات منفذة : ومهمتها المطابقة بين القواعد القانونية وتصرفات الأفراد والجماعلت بما يحقق للنظام القانونى نفاذه واحترامه الذى بدونه يفقد صفته كقانون ويصبح مجرد مثل ومبادئ تقترب من الفضائل والأخلاق . وتقوم هذه السلطات بتطبيق الجزاءات على من يخالف النظام القانونى .

وتتميز المجتمعات الوطنية بوجود هذه السلطات بأنها على درجة كبيرة من القوة والكفاءة.

ولقد تطورت المجتمعات السياسية تطورا طويلاً متصلاً إلى أن اتخذت شكل الدول المستقلة وأصبح سكان العالم موزعين فى الوقت الحالى على 149 دولة تستقر كل منها فى اقليم محدد وتخضع لسلطة حاكمة تتولى تنظيم شئونها .

وما تاريخ العالم الا تاريخ التطور الذى لم ينقطع لهذه المجتمعات الوطنية، نتيجة لما يملكه كل منها من قوة اقتصادية ومعنوية ولما يقوم به من استخدام لطاقاته البشرية واستغلال لثرواته المادية فى ظل أهداف وأنظمة متغيرة .

 

                                       ** المبحث الثانى **

                            عناصر المجتمع الدولى وخصائصة

 نظرة تاريخية :-

       لا تعتبر الدولة المرحلة الأخيرة فى ميدان التنظيم السياسى، فالتطور يشير إلى انتماء بنى الانسان إلى مجتمع سياسى أوسع نطاقاً من الدولة .

فمنذ القرن السادس عشر ظهرت الدولة الأوربية الحديثة فى أعقاب انهيار النظام الاقطاعى، وأحست هذه الدول أنه من اللزم أن تعترف كل دولة بوجود الدول الأخرى وبسيادتها وأن تقبل التعامل معها وفقاً لقواعد قانونية تتفق عليها . ولهذا قبلت هذه الدول الانتماء إلى ما عرف منذ مؤتمر وسنفاليا سنة 1648 باسم العائلة الدولية . ولقد كانت هذه العائلة قاصرة فى الأمر على دول غرب أوربا ثم انضمت إليها سائر الدول الاوربية المسيحية ثم شمات الدول المسيحية غير الاوربية وبصفة خاصة الدول التى استلقت فى القارتين الأمريكتين . وكانت تركيا أول دولة أسلامية تنضم للعائلة سنة 1856 . وانضمت الصين وهى دولة بوذية سنة 1844 وكذلك اليابان سنة 1853. وبعد انشاء عصبة الأمم فى سنة 1919 أصبحت العائلة الدولية تعرف باسم المجتمع الدولى الذى انضم إليه عدد محدود من الدول الافريقية والآسيوية مثل ايران ومصر والحبشة .

ولقد تغير تشكيل المجتمع الدولى تغيراً جوهرياً بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة لتحرير الشعوب الآسيوية والافريقية لانضمامها إلى المجتمع الدولى كدول مستقلة ذات سيادة .

وأصبح المجتمع الدولى فى الوقت الحالى مفتوحاً لكل الشعوب التى تنال استقلالها بغض النظر عن موقعها الجغرافى وبدون تفرقة بين الأجناس أو الاديان أو الحضارات . وقد كان لذلك أثره الواضح على القواعد التى تحكم العلاقات فيما بين الدول والتى نشأت أصلاً تعبيراً عن ارادة الدولة الأوربية وحماية لمصالحها .

خاصة حينما تبنت الدول الآسيوية و الافريقية ومن بينها الدول العربية والاسلامية مجموعة من المطالبات بقصد ادخال تغيير فى نظام المجتمع الدولى والمبادئ التى تحكمة حماية لحقوقها ومصالحها وتأكيداً لمساهمتها الحضارية والثقافية فى بناء النظام الدولى بألاسلوب الذى يحرره من تأثير حضارة قارة بعينها أو مصالح مجموعة من الدول الكبرى.

وكان لهذه المطالبات أثرها الواضح فى تقرير القواعد الخاصة لتصفية الاستعمار، وبتاكيد سيادة كل دولة على مواردها الطبيعية، وبكفالة حق الشعوب فى تقرير مصيرها، وبتقرير المساواة بين الشعوب وبين بنى الانسان بغض النظر عن اللون أو الاصل أو الثقافة أو العقيدة .

ومن الثابت أن المجتمع الدولى المعاصر قد استكمل كل عناصر المجتمع السياسى وأن كانت له سمات وخصائص تميزه عن المجتمع الوطنى وذلك على النحو الآتى :

1-   التضامن الدولى :

من المشاهد أن رابطة التضامن بين الشعوب المبينة على وحدة الطبيعة الانسانية تقوى يوما بعد يوم, وتنشىء علاقات بين أفراد تابيعين لأكثر من دولة, فضلا عن العلاقات التى تنشأ بين الدولة ذاتها . ولقد ساعدت على ذلك الثورة العلمية والتكنولوجية التى أدت إلى تحسين وسائل الاتصال بين الشعوب من بواخر وسكك حديدية وطيارات وصواريخ وأقمار صناعية وصحف ومؤلفات مختلفة واذاعة وتليفزيون ولاسلكى وغيرها . وفضلا عن ذلك فالعلم والثقافة والفنون والآداب لا تعترف بالحدود الوطنية وتؤدى إلى التقارب الثقافى والمعنوى بين الشعوب العالم وإلى إيجاد تراث أنسانى مشترك يشتمل على الانجازات العلمية والفنية والثقافية الكبرى لكاف الشعوب .

ومن ناحية أخرى ساعد على دعم التضامن الدولى أزدياد العلاقات الاقتصادية الدولية زيادة كبيرة ؛ نتيجة للثورة الصناعية وتحسين وسائل الانتاج والنقل والأساليب التجارية والمالية, والتشعب المتزايد لحاجات البشر .

ولا جدال فى أن هذه الصلات الحتمية بين الشعوب جعلت الحدود المفروضة حول الدول حدودا وهيمة, وأوجدت ما يسمى بالمجتمع الدولى الذى يربط بين الأفراد والجماعات التابعين لدول مختلفة, كما يربط بين الدول نفسها .

كما أدت المخاطر المشتركة التى يتعرض لها الجنس البشرى فى الوقت الحالى نتيجة للحروب الحديثة وللاختلالات الاقتصادية والاجتماعية ولاكتشاف الأسلحة النووية, وتلوث البيئة الانسانية, ولامكان أستعمال الفضاء الخارجى والوصول إلى الاجرام السماوية- إلى زيادة الاحساس بوحدة المصير الانسانى .

وصاحب ذلك تطور قانونى تأكد فى النصف الثانى من القرن العشرين ومقتضاه الاعتراف للانسان بعدد من الحقوق الاساسية والاعتراف للشعوب بالحق فى تقرير مصيرها, مما أدى إلى زيادة دور الانسان والشعوب, سواء فى داخل الدولة أم فى ميدان العلاقات الدولية وأصبح الاتصال بين الشعوب لا يقل فى أهمية وآثاره عن الاتصال الحكومى, وظهرت أهمية الرأى العام فى توجيه سياسة الدولة الداخلية والخارجية .

وهكذا اشتد الاحساس بالتضامن الدولى الذى يستند على آمال الشعوب فى ايجاد عالم يسوده السلام والرخاء ويستطيع الاستفادة من منجزات العلم والتكنولوجيا كما يستطيع مواجهة المخاطر المشتركة التى تهدد الجنس البشرى .

يبد أن كل ما تقدم لا ينفى أنه فى داخل الدولة الواحدة تبلغ الوحدة الوطنية أقصاها من القوة, والفضل فى هذا يرجع إلى أوجه الشبه الكثيرة التى تربط بين المواطنين من وحدة الجنس واللغة والعقيدة, ومن تاريخ مشترك, واتحاد فى ظروف البيئة الاقتصادية .

ولكن التضامن المبنى على الشبه يقل ويضعف فى العلاقات بين الدولة المختلفة؛ وذلك لاختلاف الأجناس والاديان والثقافات ولتضارب المصالح القومية. والعنصر الجوهرى فى التضامن الدولى هو الاحتياج المتبادل, فالتجارة الدولية والتبادل المالى والثقافى والانسانى بين الشعوب أمر لاغنى عنه, ويزداد مع الزمن .

ويمكن القول أن كافة الدول أصبحت فى حالة تبعية أقتصادية متبادلة, وهذا سواء بالنسبة للدول المتقدمة التى تنظر وراء حدودها للحصول على المواد الأولية وعلى الاسواق اللازمة لتصريف مصنوعاتها, أو الدولة الآخذة فى النمو التى تحتاج إلى تصدير حاصلاتها وثرواتها الطبيعية وإلى الحصول على الآلات والمواد المصنعة والخبرة الفنية والاموال اللازمة للتنمية .

ومن الثابت أن الدولة تحتاج أولا إلى الدخول فى علاقات مستمرة مع الدول التى تكملها من الناحية الاقتصادية أو التى ترتبط معها بروابط ثقافية خاصة, وهى تحتاج بعد ذلك إلى التعامل مع سائر الدول تحقيقا للرخاء المشترك واستفادة من تجارب الغير .

ويلخص مما تقدم أن سكان العالم يرتبطون برابطة التضامن الدولى ولكنة لا يزال ضعيفا إذا ما قورن بالتضامن الوطنى . ولا ريب فى أن ضعف رابطة التضامن الدولى تؤثر بصورة كبيرة فى طريقة تنظيم المجتمع الدولى .

2-   النظام القانونى الدولى :

  للمجتمع الدولى نظامه القانونى الذى يتفق مع ضعف رابطة التضامن الدولى ومع طبيعة العلاقات التى تتم بين الدول فى العصر الحديث .

فمن الملاحظ أن الدول ترتبط بعلاقات قانونية يزداد عددها وتتطور طبيعتها مع ازدياد ونمو التضامن الدولى . فالدول تلتزم بمعاهدات تجب مراعاتها اذ أن لها قوة قانونية ملزمة, كما أنها تعترف بالعرف الاولى وتطبقه, كما وجدت محاكم لتفصل فى المنازعات التى تقوم بين الدول . وزيادة على ذلك تجد أنه قد نشأت منظمات دولية عالمية سياسية وفنية, كما ظهرت منظمات دولية أقليمية, ولقد ساهمت هذه المنظمات فى تدعيم قواعد القانون الدولى .

وتحكم نظرية سيادة الدول النظام القانونى الدولى . فواقع الأمور أن العائلة الدولية قد اعترفت منذ القرن السادس عشر بنظام مبناه لعتبار الدولة أعلى سلطة فى داخل اقليمها وعدم خضوعها فى علاقاتها مع الدول الأخرى لأى سلطة خارجية . ولهذا كان للاتفاق والرضا أهمية كبرى فى المجتمع الدولى, وانعدمت فيه السلطات المشروعة والقضائية والمنفذة بشكلها المعروف فى النظام الوطنى ؛ وأصبح من مقتضيات السيادة الوطنية أن النظام القانونى الدولى ينشأ الدول واتفاقها ولا يفرض عليها .

وتدل الدلائل على أنه على الرغم من التيارات الحديثة فى القانون الدولى العام التى تهاجم نظرية السيادة , مهما اجتهد العلماء والفقهاء فى تفنيذها من الناحية النظرية, فان تطور القانون الدول العام – حتى فى السنين الأخيرة – يميل الى تأكيدها, بالتالى إلى تعزيز قاعدة عدم جواز المساس بالسيادة الوطنية . ومن هنا عهد جاء عصبة الامم مؤكدا وحامياً لسيادات الدول الأعضاء . كما أن ميثاق الامم المتحدة لم يستطيع أن يضحى كذلك بفكرة السيادة الوطنية.

لذلك كان أساس وجود المجتمع الدولى فى الوقت الحالى هو حاجة الدول على التعاون فيما بينها ، فمع احتفاظ كل منها باستقلالها وذاتيتها تشترك جميعاً فى تكوين ارادة عليا تختص بوضع القواعد التى تنظم المجتمع الدولى، ولقد نتج عن ذلك ظهور النظام القانونى الدولى لكى يحدد الاختصاص المعترف به للدول ولسائر أشخاص المجتمع الدولى إلأى تحقيقها وطرق تحقيقها .

ومن الطبيعى أن يكون النظام القانونى الدولى أضعف من النظام الداخلى وذلك لأنه ليس مفروضاً بواسطة سلطة عليا منظمة، كما أنه لايحتوى على تنظيم كامل ودقيق لكافة مظاهر العلاقات الدولية؛ وذلك لصعوبة انشاء القواعد القانونية الدولية . ولاريب أنه كلما قويت رابطة التضامن الدولى وترتب على ذلك زيادة القواعد القانونية بين الدول، ونمو الاحساس بأهمية النظام القانونى الدولى .

3-   السلطات الدولية :

       يستكمل المجتمع تكوينه السياسى حينما تظهر فيه هيئات تسهر على وضع قواعد النظام القانونى، وعلى المطابقة بينها وبين الواقع بتطبيق جزاء على الاخلال بها والا فقدت تلك القواعد صفتها كقواعد قانونية .

والمجتمع الدولى تغيب فيه مثل هذه الهيئات العليا؛ وتقوم الدول عادة بمباشرة الاختصاصات التى كان يجب أن تباشر أصلاً بواسطة السلطات الدولية فهى التى تشترك فى انشاء القانون الدولى وتعديله . وهى التى تفصل فى مدى احترام القانون الدولى، وهى التى توقع الجزاء على من يخالف القاعدة القانونية الدولية .

وابتداء من سنة 1919، انتظمت الدول فى منظمات عالمية سياسية تشرف على تحديد أهداف المجتمع الدولى وعلى استتباب الأمن الدولى، فتكونت عصبة الامم وبقيت مشرفة على العلاقات الدولية حتى قيام الحرب العالمية الثانية سنة 1939، وحلت محلها سنة 1945 الأمم المتحدة التى جعلت لنفسها اختصاص الاشراف على العلاقات الدولية والمحافظة على الأمن الدولى

والى جانب هذه المنظمات الدولية العالمية ظهرت منظمات اقليمية أعطيت اختصاص المحافظة على الأمن وتشجيع التعاون فى الجماعة الاقليمية التى نشأت فيها، كمنظمة الدول الامريكية والجامعة العربية والسوق الاوربية المشتركة ومنظمة الوحدة الافريقية  .

ولقد كثر التعليق على المنظمات الدولية، فتارة يوصف تكوينها بالضعف وتنعت مواثيقها بالقصور، وتارة أخرى يسخر الكتاب من فكرة التنظيم الدولى ويبدون عدم ايمانهم بامكانية احلال التعاون الدولى محل صراع القوى وتحويل الشعوب عن الحرب، وتارة كان النقد يوجة إلى العاملين فى المنظمات الدولية .

ونحن نميل إلى الاعتقاد بأن المنظمات الدولية لايمكن اعتبارها سلطات عليا طالما أن المجتمع الدولى يخضع لنظام السيادة الوطنية . فواقع الأمور أن هذه المنظمات ولدت فى جو من التناقض مبناه صراع الدول وتنافسها ثم حاجتها رغم ذلك إلى التعاون فيما بينها مع الاحتفاظ بسيادتها واستقلال الأمر الذى يتنافى مع الخضوع لسلطة سياسية عليا  .

ويترتب على ذلك أن المجتمع الدولى يختلف فى تكوينه عن المجتمع الوطنى فالأول ضعيف التضامن ناقص التنظيم، أما الثانى فقوى التضامن قد كمل تنظيمه، وخضع أفراده لسلطاته المشرعة والمنفذة القضائية .

 

                          ** البحث الثالث**

                    التمييز بين القانون الدولى العام

                    وبين الأخلاق والمجاملات الدولية

يجب التمييز بين قواعد القانون الدولى العام، وبين مجموعة أخرى من القواعد غير القانونية تنظم تصرفات الدول كقواعد الأخلاق أو المجاملات.

1-   الأخلاق الدولية :

هى مجموعة من المبادئ يمليها الضمير العالمى، ويقيد بها تصرفات الدول، ولكنها ليست ملزمة من الناحية القانونية، ومثالها وجوب استعمال الرافة فى الحروب، ووجوب مراعاة الصدق والامانة، وضرورة نجدة الدول التى تحل بها الكوارث .

وتتميز قواعد الأخلاق الدولية باعتمادها فقط على الضمير العالمى وبأن مخالفتها لا ترتب المسئولية الدولية . والعمل الاخلاقى يفقد صفته إذا كان لا يصدر عن ضمير حر، أو إذا أتاه شخص تحت تأثير الخوف من جزاء تطبقة سلطة خارجية . أما القانون الدولى فانه يراعى اعتبارات اقتصادية أو سياسية بالاضافة إلى الاعتبارات الأخلاقية، كما أن مخالفة أحكام ترتب المسئولية الدولة وتوقع الجزاءت القانونية .

 ومن الملاحظ أن كثيرا من قواعد الأخلاق الدولية اندمجت ضمن قواعد القانون الدولى العام، ومثال ذلك اتفاقيات جنيف سنة 1949 الخاصة بحماية أسرى وجرحى الحرب . فهذه الاتفاقيات جعلت بعض البادئ التى كانت تأمر بها الأخلاق الدولية فيما يتعلق بمعاملة أسرى الحرب قانةناً ملزماً للدولة .

2-   المجاملات الدولية :

       تجب التفرقة بين قواعد القانون الدولى العام وقواعد المجاملات الدولية والأخيرة عبارة عن قيام دولة بعمل هى غير ملزمة به قانوناً أو أخلاقا، أو امتناع عن عمل هى غير ملزمة بالامتناع عنه قانوناً أو أخلاقاً، ويكون الدافع لها على ذلك توطيد العلاقات بينها وبين دولة أخرى .

ومثال ذلك مراسم التحية البحرية واستقبال رؤساء الدول وعدم أسر سفن الصيد فى حالة الحرب .

وتختلف المجاملات الدولية عن قواعد القانون الدولى العام فى أن عدم قيام الدولة بما يعتبر مجاملة دولية لا يعد عملاً غير مشروع ولا يترتب عليه أية مسئولية قانونية، وكل ما يمكن أن يترتب على هذه المخالفات أن تعاملها الدول الأخرى بالمثل.

وتتميز قواعد المجاملات عن قواعد الأخلاق فى أن القواعد الاخيرة ملزمة، وان لم يكن لها جزاء يعتمد على القهر والجبر . ويترتب على ذلك أن مخالفة دولة ما لقاعدة أخلاقية فى مواجهة دولة أخرى لا يترتب عليه امكان خروج الدولة الأخيرة على قواعد الاخلاق .

ومن الممكن أن تتحول قاعدة المجاملات إلى قواعد قانونية إذا ارتضت الدول الالتزام بها كقواعد قانونية، فحصانات أعضاء البعثات الدبلوماسية ظهرت فى أول الأمر على صورة مجاملات، ثم انتهى بها الأمر إلى الاندماج ضمن قواعد القانون الدولى العام .

 

                          ** الفصل الثانى **

                      مصادر القانون الدولى العام 

المصادر الرسمية للقانون الدولى العام :

تتولى فيما يلى تحديد المصادر الرسمية للقانون الدولى العام، ونعنى بها مجموعة الوسائل أو الطرق التى تنشئ القواعد القانونية الملزمة للدول .

ولما كان المجتمع الدولى ضعيف التنظيم، فانه من الطبيعى أن نكتشف فى مجال تحديد المصادر الرسمية للقانون الدولى العام أسلوباً يختلف عن أسلوب القانون الوطنى؛ وذلك لأن عملية انشاء القواعد القانونية الدولية لا ترتبط بسلطة تشريعية منظمة، وانما تعتمد على مساهمة الدول نفسها فى انشاء تلك القواعد . ويترتب على ذلك بالضرورة أن المصادر الرسمية للقانون الدولى يجب أن تنحصر بالدرجة الأولى فى الوسائل التى تكشف عن قواعد قانونية تعترف بها الدول بصورة أو أخرى . 

ولقد عددت المادة الثامنة والثلاثون من النظام الأساسى لمحكمة العدل الدولية مصادر القانون الدولى العام والنظام الأساسى لهذه المحكمة له أهمية خاصة حيث انه قد ألحق بميثاق الأمم المتحدة سنة 1945، انضمت صراحة لنظام المحكمة دون أن تنضم إلى عضوية الأمم المتحدة كسويسرا مثلاً . وزيادة على ذلك فان نظام محكمة العدل الدولية الملحقة بالامم المتحدة يطابق لائحة محكمة العدل الدولية الدائمة التى كانت ملحقة بعصبة الأمم والتى قبلتها فى الفترة ما بين الحربين العالمتين دول كالمانيا لم تنضم بعد إلى الامم المتحدة . لكل ذلك سنقوم بشرح مصادر القانون الدولى العام على أساس المادة 38 من ذلك النظام .

تقسيم مصادر القانون الدولى العام وترتيبها :

ميزت المادة الثامنة والثلاثون بين نوعين من مصادر القانون الدولى العام :

( أ ) المصادر الأصلية :

وهى التى نرجع إليها لاكتشاف القواعد القانونية الدولية ولمعرفة مضمونها، وحددتها المادة 38 بالآتى :

أولا – الاتفاقات الدولية العامة والخاصة التى تضع قواعد معترفا بها صراحة من جانب الدول المتنازعة .

ثانياُ – العرف الدولى المقبول بمثابة قانون دل عليه تواتر الاستعمال .

ثالثاً – مبادئ القانون العامة التى أقرتها الأمم المتمدنة .

( ب ) المصادر الاحتياطية :

وهى مصادر ثانوية لا تنشئ قواعد دولية . ولكن يستعان بها للدلالة على وجود قاعدة من قواعد القانون الدولى ولمعرفة مدى وطريقة تطبيقها .

ولقد ذكرت المادة الثامنة والثلاثون مصدرين احتياطيين وهما :

أولاً – أحكام المحاكم .

ثانياً – مذاهب كبار المؤلفين فى القانون العام .

ومن الواضح أن الترتيب الوارد فى المادة 38 لمصادر القانون الدولى يجب أن يتبع حينما تبحث المحكمة عن القاعدة القانونية الواجبة التطبيق .

فالقاعدة المقررة فى المعاهدة يجب أن تطبق قبل البحث عن وجود عرف دولى . والقاعدة العرفية يلزم اتباعها قبل اللجوء إلى مبادئ القانون العامة، وكل هذه المصادر الأصلية أقوى من المصادر الاحتياطية .

ومع اتجاه المجتمع الدولى نحو التنظيم وممارسة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المرتبطة بها لاختصاصاتها وسلطاتها فى ميدان العلاقات الدولية، أحست الدول بالحاجة إلى استعمال وسائل جماعية للتشريع الدولى تتسم بالفاعلية والتنظيم . ولهذا اتجهت الدول إلى اتباع وسيلة المعاهدات الجماعية الشارعة، كما يظهر دور قرارات المنظمات الدولية فى انشاء قواعد القانون الدولى .

 

                         ** البحث الأول **

               المصادر الاصلية للقانون الدولى العام

  اولاً – المعاهدات كمصدر للقانون الدولى العام :

يقصد بالمعاهدات اتفاقات رسمية تبرم بين الدول ويكون لها أثر قانونى تحدده قواعد القانون الدولى العام . ويمكن التمييز بين نوعين من المعاهدات .

1-   المعاهدات العقدية :

وهى اتفاقات يتم ابرامها بين دولتين أو اكثر بشأن أمور تتصل بمصالح الدول الأطراف . ومن أمثلتها المعاهدات التجارية . ومعاهدات التبادل الثقافى، ومعاهدات الصداقة والتحالف . ولا يعد هذا النوع من المعاهدات مصدراً لقواعد عامة التطبيق، ولكنه يعتبر مصدراً لالتزامات قانونية تطبق فقط فى علاقات أطراف المعاهدة .

2-   المعاهدات الشارعة :

وهى اتفاقات متعددة الأطراف يتم ابرامها بين مجموعة كبيرة من الدول، وتتضمن انشاء قواعد عامة ومجردة لحكم علاقة دولية تتصل بمصالح المجتمع الدولى كله، كالمعاهدات التى تنظم القنوات الدولية كمعاهدة القسطنطينية التى عقدت فى 20 اكتوبر سنة1888 لتنظيم الملاحة فى قناة السويس، أو المعاهدات التى تنظم وضع البعثات الدبلوماسية كمعاهدات فينا سنة1961، أو تلك التى تضع قواعد خاصة بالحرب أو الحياد كتصريح لوندرة البحرى سنة 1907، أو بالتنظيم الدولى كميثاق سان فرنسسكو الذى أنشاء الأمم المتحدة فى 26يوليو سنة 1945ز

والمعاهدات الشارعة تنشئ قواعد دولية جديدة مقبولة بصفة عامة من الدول، أو تدون قواعد استقرار فى العرف الدولى . ويوجد بها عادة نص خاص يبيح الانضمام إليها من جانب الدول غير الموقعة عليها، كما أنه من المعتاد أن تسير كافة الدول فعلاً على مقتضى القواعد الواردة فيها أو أن تعترف بوجود هذه القواعد . ومن هنا شهبت هذه المعاهدات بالتشريعات فى الأنظمة على اعتبار انها تنشئ قواعد عامة التطبيق . ولقد أكدت اتفاقية فينا سنة 1969 لقانون المعاهدات أن القاعدة التى تقررها المعاهدة قد تلزم الدول غير الأطراف باعتبارها قاعدة عرفية .

وكانت المعاهدات الشارعة قليلة العدد فى الماضى، فكان العرف هو المصدر الأساسى للقواعد الدولية . ولقد تغيرات الأوضاع فى النصف الثانى من القرن العشرين نظراً لحاجة المجتمع الدولى لقواعد قانونية جديدة وعدم امكانية انتظار تكوينها من طريق العرف الدولى . ولهذا أصبحت المعاهدات الشارعة أسلوباً حديثاً للتشريع الدولى يتسم بالطابع الجماعى وبالتنظيم .

ولقد لجأت لجنة القانون الدولى التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة لهذا الأسلوب مرات عديدة كما سنبينه عند الكلام على تدوين العرف الدولى .

ونلاحظ أخيراً أن المعاهدات العقدية قد تساهم هى الأخرى فى أنشاء قواعد قانونية عامة التطبيق . ومثال ذلك أن تبرم معاهدة ثنائية تنظم أمراً من الأمور على نحو معين، ثم يتكرر بعد ذلك ابرام مجموعة من المعاهدات الثنائية تنظم أموراً متشابهة وعلى نفس النحو . فتعارف الدول وجريانها بصفة مستمرة على الأخذ بتنظيم معين لحالة ما يؤدى لنشوء قاعدة عرفية توجب على الدولى اتباع ذلك التنظيم .

والمثل الذى يعطى عادة فى هذا الصدد يتعلق بقاعدة عدم جواز تسليم المجرمين السياسين ، فلقد نشأت تلك القاعدة نتيجة لتكرار النص على عدم جواز تسليم المجرمين السياسين فى معاهدات تسليم المجرمين التى عقدت بين الدول المختلفة، مما أدى إلى نشوء عرف دولى بهذا المعنى .

ثانياً – العرف الدولى :

يقصد بالعرف الدولى مجموعة القواعد القانونية التى نشأت فى المجتمع الدولى بسبب تكرار اتباع الدول لها حتى استقرت واعتقدت الدول أن هذه القواعد ملزمة أى واجبة الاتباع .

1-   أركان العرف الدولى :

ينشأ العرف الدولى نشوءا طبيعيا فى المجتمع الدولى, لأن العرف قانون غير مكتوب, ونشوء القانون فى المجتمعات لتنظيم سلوك أفراده ظاهرة اجتماعية ترتبط بضروريات الحياة . والقواعد العرفية الدولية شأنها شأن القواعد العرفية الداخلية لا تنشأ الا اذا توافرت فيها شروط معينة .

ولقد بحثت محكمة العدل الدولية فى حكمها بتاريخ 5 نوفمبر سنة 1950 أركان العرف الدولى بمناسبة العرف الخاص بحق الملجأ . وبينت أن وجود قاعدة عرفية تتطلب أستكمال عناصر مركبة ودقيقة . ويمكننا أن نستخلص من الحكم أن العرف الدولى , شأنه فى ذلك شأن العرف الداخلى ؛ له ركنان وهما : الركن المادى والركن المعنوى .

(أ‌)          الركن المادى :

هو تكرار اتباع الدول لقاعدة ما لحكم علاقة معينى فيثبت بذلك أن ثمة قاعدة أصبحت مقبولة من المجتمع الدولى. وحتى يمكن اثبات ذلك , لابد من مراجعة سلوك الدول وتحديد السوابق التى طبقت فيها تلك القاعدة والسوابق الدولية تستفاد من أنواع مختلفة من التصرفات :

(أ‌)          فقد تكون السوابق الدولية تصرفات تأتيها الحكومة نفسها فى علاقاتها الدولية, ومن هنا وجب لمعرفة العرف الدولى استقراء سلوك الدولة ومراجعة المراسلات الدبلوماسية والوثائق الدبلوماسية الأخرى الصادرة عن رؤساء الدول والهيئات الاخرى المشرفة على علاقات الدول الخارجية, وكذلك المعاهدات الثنائية والجماعية التى تكشف عما تجرى عليه الدول فى علاقاتها.

(ب‌)     وقد تنشأ عن تصرفات غير دولية كتكرار النص على قاعدة دولية فى التشريعات الداخلية للدول المختلفة من قوانين أو لوائح, أو فى القرارات والتعليمات الوطنية التى يستفاد منها انصراف نية الدول إلى تطبيق قاعدة دولية .

(جـ) وقد تكون احكام المحاكم الداخلية والدولية وأحكالم المحكمين الدوليين سوابق دولية يستفاد من مراجعتها طبيق قاعدة دولية ما .

(د) وأخيرا فقد تنشأ السوابق الدولية تنيجة لقرارت وتصرفات تصدر عن المنظمات الدولية العالمية أو الاقليمية .

ويجب أن يطرد استعمال القواعد العرفية من جانب الدول بحيث تصبح مستقرة وثابتة خلال فترة من الزمن . ولا يوجد تحديد للفترة الزمنية اللازمة لنشوء العرف الدولى, فهذه الفترة قد تطول أو تقصر على حسب ظروف نشوء كل قاعدة عرفية .

وأكدت محكمة العدل الدولية فى قضية الامتداد القارى لبحر الشمال سنة 1969 ضرورة وجود اعتراف عام بوجود القاعدة العرفية فلابد أن تنشأ بين عدد كبير من الدول, وتوافق كافة الدول عليها صراحة أو ضمنا بعدم اعتراضها على القاعدة المتبعة . وبهذا تستقر تلك القاعدة وتصبح مقيدة لسائر أفراد المجتمع الدولى ولا يمكن لدولة أن تحتج بعد ذلك بعدم اشتراكها فى تكوين العرف . كما أن الدول الجديدة التى لم تكن موجودة وقت نشوء القاعدة تلتزم بها, وذلك على أساس أن وجودها فى المجتمع الدولى يقضى قبولها لكل القواعد التى تدخل فى تكوين النظام القانونى لهذا المجتمع .

وإلى جانب القواعد العرفية ذات الصفة العالمية توجد قواعد عرفية اقليمية تنشأ فى محيط عدد محدود من الدول ولا تلزم الدول الاخرى .

(ب) الركن المعنوى :

وهو اعتقاد الدول بوجوب تطبيق القاعدة على سبيل الالزام القانونى وأن من سيخالفها سوف يناله جزاء . ولقد أشارت المادة 38 من النظام الأساسى للمحكمة إلى العنصر المعنوى حينما اشترطت أن يكون العرف مقبولا بمثابة قانون دل عليه تواتر الاستعمال .

كما بينت محكمة العدل الدولية فى قضية حق الملجأ سنة 1950 أهمية مراجعة السوابق التى يستند عليها لاثبات العرف لمعرفة ما اذا كانت الدولة قد طبقت القاعدة لاعتقادها بأنها قاعدة قانونية ملزمة, أو أنها أتت مجرد مجاملة دولية .

ولهذا يجب ألا نعتبر سابقة صالحة لتكون العرف تصرفا قصدت به دولة مجاملة أخرى تحسينا للعلاقات التى تربط بينهما, وألا نعتد بغير السوابق التى يستفاد منها اعتقاد الدولة أنها ملزمة بالتصرف على هذه الصورة .

2-   تدوين العرف الدولى وتطويره :

يمتاز العرف الدولى على المعاهدات بمرونة قواعده, وبكونها تتكور دائسا وفقا لحاجات المجتمع الدولى . ولكن هذه الميزة يقابها عيب كبير ينحصر فى غموض قواعد الدولى, وعدم تحديدها بصفة أكيدة تقطع كل شك ونزاع, ولهذا اتجه الرأى منذ مدة طويلة إلى ضرورة تدوين قواعده .

ويجب ألا تفهم التدوين هنا بمعناه فى القانون الداخلىو حيث يكون من عمل المشرع صاحب السلطة العليا فى وضع القواعد القانونية . فهذا المنى الداخلى يختلف عما قصد بالتدوين فى القانون الدولى, حيث تركت عملية التدوين بصفة عامة لنشاط الفقهاء والهيئات العلمية والمنظمات الدولية, وهى كما هو واضح, لا تملك سلطة عليا فى هذا الصدد . ولا تكون لأعمالها قيمة الزامية الا اذا اتخذت شكل اتفاقيات دولية تصدق عليها الدول .

(أ)المجهودات الفردية لتدوين العرف الدولى :

ظهرت أول التدوينات على هيئة مجهودات فردية, هى لا تعبر فى الغالب عن الحاجة الفعلية للقانون الدولى, ولكن عن مجرد آراء أو نظريات فقهية حول القانون الدولى بصفة عامة .

وأهم المجهودات من هذا النوع مجهودات العالم بلنتشى الذى أخرج تقينا للقانون الدولى العام سنة 1868, ومجهودات الأمريكى فليد الذى أظهر تقنينا آخر سنة 1872, ومجهودات الايطالى فيور الذى نشر مجموعة أخرى سنة 1889.

ولقد انتقل النشاط بعد ذلك إلى الجمعيات العلمية المشتغلة بالقانون الدولى وأهمها مجمع القانونالدولى الذى أنشئ سنة 1873, وجماعة القانون الدولى التى حملت هذا الاسم منذ سنة 1895, والمعهد الأمريكى للقانون الدولى الذى أنشئ 1912 وجامعة هارفارد الامريكية التى خصصت مجموعة كبيرة من الباحثين لتجميع القواعد الخاصة بالمواضيع الدولية المختلفة . ولقد أدت مجهودات الهيئات العلمية إلى صياغة عدد كبير من القواعد العرفية على هيئة مشروعات لاتفاقات أو تصريحات .

ولقد ساهمت هذه المجهودات فى توضيح بعض أحكام العرف الدولى .

(ت‌)     عصبة الامم وتدوين العرف الدولى :

ولما أنشئت عصبة الامم أخذت الامر على عاتقها .فأنشأت فى سنة 1924 لجنة خاصة من الخبراء لاختيار مواضيع القانون الدولى التى يمكن تقنين قواعدها فورا . واختارت اللجنة ستة موضوعات رأت أنها أصلح من غيرها لتلك العملية وهى : الجنسية, والبحر الاقليمى , ومسئولية الدولة عن الأضرار التىتلحق بأشخاص وأموال الاجانب فى اقليمها , والقرصنة , واستثمار منتجات البحار, والحصانات والامتيازات الدبلوماسية . ولقد اختارت الجمعية العامة لعصبة الأمم المسائل الثلاث الاولى للبدء فى تقنينها .

وجمعت العصبة لذلك مؤتمرا دوليا خاصا عقد فى لاهاى فى 13مارس سنة 1931 وضم هذا المؤتمر مندوبى 47 دولة, ولكن كان نصيبه الفشل اذ لم يحصل الاتفاق فيه الا على بعض القواعد الخاصة بالجنسية . ولكن هذا لا ينفى أهمية الدراسات التى قامت بها العصبة فى هذا الصدد .

(جـ) المؤتمرات الامريكية وتدوين العرف الدولى :

اهتمت جمهوريات أمريكا الشمالية والجنوبية بتدوين مبادئ القانون الدولى العام الخاصة بالقارة الامريكية واتبعت فى ذلك وسائل مختلفة .

ففى سنة 1906 عهد المؤتمر الأمريكى الذى عقد فى ريودى جانيرو الى لجنة من الفقهاء بمهمة التدوين, ولكن الحرب العالمية الاولى عطلت أعمالها .

وفى أثناء المؤتمر الأمريكى الذى عقد فى هافانا سنة 1928, وضعت مشروعات لاتفاقيات خاصة ببعض المسائل, وأقرت المؤتمرات الأمريكية التالية بعضها , وعرضتها على الدول الأمريكية للتصديق, فأهملت البعض ونفذت البعض الآخر .

وآخر مجهود بذلته الجمهوريات الأمريكية فى هذا الصدد ما نص عليه ميثاق بوجوتا سنة 1948 من أنشاء مجلس من القانونيين الامريكيين مهمته تقنين القانون الدولى العام والخاص .

(د) الامم المتحدة وتدوين العرف الدولى :

نصت المادة الثالثة عشرة من ميثاق الامم المتحدة على أن تنشئ الجمعية العامة دراسات وتشير بتوصيات بقصد تشجيع التقدم المطرد للقانون الدولى وتدوينه .

ووفقا للمادة المذكورة يكون للجمعية العامة نوعان من الاختصاص :

1-   تدوين قواعد العرف الدولى السارية المفعول .

2-   العمل على أن تنمو قواعد العرف الدولى بصورة مطردة تتفق مع الاحتياجات والظروف الجديدة للمجتمع الدولى .

    وفى نوفمبر سنة 1947 أنشأت الجمعية العامة للأمم المتحدة لجنة تعمل تحت اشرافها تسمى لجنة القانون الدولى لتقوم ببحوث ودراسات فى القانون الدولى بقصد تجميع العرف الدولى, وتشجيع التقدم المطرد لهذا القانون . ودخل فى عضوية هذه اللجنة كبار أساتذة القانون الدولى فى الدول المختلفة .

ولقد ازدات أهمية أعمال هذه اللجنة تدريجيا نتيجة لازدياد عدد أعضاء الأمم المتحدة , وللتحسن النسبى فى العلاقات بين الدول الغربية والاتحاد السوفيتى .

وتتعاون اللجنة فى عملها مع مجلس الدول الأمريكية للقانونيين ومع اللجنة القانونية الاستشارية لدول آسيا وافريقيا .وانتهت أعمال لجنة القانون الدولى فى دوراتها المختلفة إلى تدوين عدد كبير من القواعد العرفية فى صورة مشروعات لاتفاقات دولية . ومن الملاحظ أن اللجنة لم تكتف بتدوين ما هو معمول به من قواعد العرف الدولى .

بل أدخلت كذلك أحكام جديدة بقصد العمل على تقدم القانون الدولى . ولقد عرض بعض هذه المشروعات على مؤتمرات دولية دعت إلى عقدها الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث تم اقرارها ثم صدقت عليها الدول . وفيما يلى بيان بأهم ما حققته اللجنة المذكورة من نتائج فى ميدان تدوين العرف الدولى .

1-   أعدت اللجنة اتفاقية خاصة بتقليل أحوال انعدام الجنسية وبعديمى الجنسية .

2-   وأعدت اتفاقية تحتوى على مجموعة جنائية خاصة بالجرائم التى ترتكب ضد السلام وضد الانسانية . كما حضرت أتفاقية منع ابادة الأجناس البشرية سنة 1949.

3-   وكانت أعدت اتفاقيات خاصة بالبحر الأقليمى وبأعالى البحار بالامتداد القارى وبالصيد، ولقد تمت الموافقة عليها فى مؤتمر جنيف سنة 1958.

4-   أعدت اللجنة اتفاقية تنظيم التمثيل الدبلوماسى والحصانات الدبلوماسية ، وتمت الموافقة عليها فى مؤتمر فينا سنة 1961.

5-   أعدت اللجنة اتفاقية تنظم العلاقات القنصلية وتمت الموافقة عليها فى مؤتمر فينا سنة 1964.

6-   واعدت اللجنة اتفاقية لقانون المعاهدات تم اقرارها فى مؤتمر فينا سنة 1969.

7-   أعدت اللجنة اتفاقية الميراث الدولى فى المعاهدات وتم أقرارها فى مؤتمر فينا سنة 1978.

8-   وتقوم اللجنة فى الوقت الحالى ، بناء على توصيات من الجمعية العامة للأمم المتحدة، بتحضير دراسات ومشروعات متعلقة بالمسئولية الدولية، وبشرط الدولة الأكثر رعاية، وبالعلاقة بين الدول والمنظمات الدولية، وبالمجارى المائية الدولية .

ثالثاً – مبادئ القانون العامة :

أشارت المادة الثامنة والثلاثون إلى مبادئ القانون العامة التى أقرتها اللأمم المتمدنة، واعتبرتها مصدراً أصليا للقانون الدولى العام .

ولقد دار نقاش كبير حول المقصود بمبادئ القانون العامة . ويذهب غالبية الفقهاء إلى أن المقصود بها مجموعة من المبادئ الأساسية التى تعترف بها النظم القانونية الداخليه للدول المختلفة . فعلى الرغم من اختلاف الأنظمة القانونية السائدة فى العالم كانظام الأسلامى والنظام اللاتينى والنظام الانجلوسكسونى والنظام الشيوعى إلى أنه من الممكن اكتشاف مبادئ مشتركة بين هذه الانظمة كمبدأ المسئولية التعاقدية أو المسئولية التقصيرية .

وهذه المبادئ القانونية التى تطبق بطريقة مستقرة فى داخل الدول المختلفة يمكن الاستعانة بها وتطبيقها فيما بين الدول، إذا لم يكن هناك مبدأ آخر مقرر فى معاهدة أو فى عرف دولى . ويشترط بالطبع أن تكون المبادئ الداخلية المراد تطبيقها فى المجتمع الدولى متسقة وروح القانون الدولى العام، ومتفقة مع المجتمع الدولى . مثال ذلك أن من مبادئ القانون الداخلى مبدأ عدم جواز الالتجاء إلى القوة فى العلاقات الفردية، بيد أن هذا الالتجاء يكون جائزاً أحياناً فى القانون الدولى .

ولقد ذهب بعض الفقهاء مثل جورج سل إلى انتقاد نص المادة الثامنة والثلاثين لذكره مبادئ القانون العامة بين مصادر القانون الدولى .

وحجته فى ذلك أن مثل هذه المبادئ تدخل فى نطاق العرف الدولى . ولكن هذا القول على اطلاق خاطئ، لأن هناك فارقاً بين العرف وبين مبادئ القانون العامة . فلكى تصبح القاعدة عرفا دولياً يشترط أن يتكرر تطبيقها من جوانب الدول، على النحو السابق بيانه. فى حين أن القاضى الدولى قد يطبق للمرة الأولى مبدأ من مبادئ القانون العامة على علاقة دولية لا يوجد بشأنها عرف أو معاهدة .

 ومما لا شك فيه أن أعتبار مبادئ القانون العامة من المصادر الأصلية للقانون الدولى، ويدخل عنصر ديناميكياً فى ذلك القانون مما يساعد على تطويره واستكمال قواعده كلما دعت الحاجة إلى ذلك .

ولقد طبقت محكمة العدل الدولية الدائمة مبادئ القانون العامة فى قضية مصنع كورزوف سنة 1937 بين ألمانيا وبولنده فقررت " أنه لا يجوز وفقاً لمبادئ القانون العامة أن يدعى أحد الأطراف – بولندة – أن الطرف الأخر – المانيا- قد أخل بالتزام مفروض عليه، إذا كان الطرف الأول قد لجأ إلى طرق غير مشروعه لمنع الطرف الثانى من تنفيذ التزامه ". كما طبقت محكمة العدل الدولية مبادئ القانون العامة فى عدد آخر من القضايا . ومن أمثلة ذلك الحكم الذى صدر من المحكمة فى قضية مضيق كورفو بتاريخ 9أبريل سنة 1949 بمناسبة النزاع بين البانيا وانجلترا . فقد قررت المحكمة أنه يجوز الالتجاء فى المسائل الدولية إلى وسائل الاثبات غير المباشرة المقبولة فى جميع النظم القانونية وذلك إذا تعذر الالتجاء لوسائل الاثبات بسبب الرقابة التى تفرضها دولة ما على اقليمها .

 

                               ** المبحث الثانى **

                       المصادر الاحتياطية للقانون الدولى العام

اولا – القضاء الدولى :

يقصد بالقضاء فى هذا المجال مجموعة من المبادئ القانونية التى تستخلص من أحكام المحاكم الدولية . والقضاء الدولى لا يعد مصدراً أصلياً للقانون الدولى العام، فهو لا يخلق قواد جديدة لأن مهمة القاضى تقتصر على تطبيق القانون القائم، ولان الحكم الدولى لا يلزم الا أطراف النزاع وذلك بالنسبة للنزاع المحكوم فيه فقط .

 ومع أن السوابق القضائية الدولية غير ملزمة إلا أنه من الممكن الرجوع إليها للاستدلال على ما هو قائم ومطبق من قواعد القانون الدولى ولتفسير ما غمض منه . وقد يستفاد من عمومية نص المادة 38شموله لأحكام المحاكم الوطنية، ولكن هذه الأحكام ليس لها حجية أمام المحاكم الدولية، وانما قد تساعد فقط فى اثبات قاعدة عرفية ما .

ولقد أظهرت محكمة العدل الدولية الملحقة بالأمم المتحدة اهتماماً بالغاً بأحكام المحاكم الدولية . فقد أشارت فى كثير من أحكامها وآرائها الاستشارية إلى مبادئ استقرت عليها محكمة العدل الدولية الدائمة التى كانت ملحقة بعصبة الأمم .

ونشير إلى ناحية هامة من نواحى نشاط محكمة العدل الدولية، وهى تتعلق باختصاصها باصدار آراء استشارية لمجلس الأمن وللجمعية العامة للأمم المتحدة ولبعض الأجهزة الدولية الاخرى تتصل بتفسير النقاط القانونية وعلى الخصوص بتفسير ميثاق الامم المتحدة ومواثيق الهيئات المتخصصة . فهذه التفسيرات والفتاوى وأن كانت استشارية إلا أن فروع الأمم المتحدة تعمل عادة بمضمونها، وهذا ما يظهر أهمية دور هذه المحكمة من ناحية تحديد قواعد القانون الدولى العام وتفسيرها.

ثانياً- الفقة الدولى :

أن القانون الدولى مدين منذ القدم بدراسات مجموعة كبيرة من العلماء تولوا شرح قواعده وبناء نظرياته المختلفة . ومجموع ما نشر من أبحاث ومؤلفات هؤلاء العلماء يسمى بالفقة الدولى .

ومن البديهى أن الفقهاء لا يملكون من السلطة ما يكفى لفرض آرئهم على الدول، ولهذا لا يعد الفقة مصدراً أصلياً للقانون الدولى العام، بل هو مصدر احتياطى نرجع إليه للتعرف على القواعد الدولية وفهمها وتفسيرها .

غير أنه يجب الاحتياط عند الرجوع لأقوال الفقهاء لانها كثيرا ما تكون مشبعة بالروح الوطنية ويكون الغرض منها تأييد السياسة الوطنية لدولة الفقية .

 

                                    ** المبحث الثالث **

                             المصادر الأخرى للقانون الدولى

1-   قواعد العدالة :

فكرة العدالة من الأفكار التى لم يمكن حتى الآن تحديدها بطريقة واضحة، وكثيراً ما يربطها الفقهاء بالحكمة من التشريع أو بمبدأ حسن النية .

ويمكن تعريف العدالة بصفة عامة بأنها مجموعة من المبادئ المتوازنة ويوحى بها العقل وحكمة التشريع، وهى فكرة مرنة تختلف بحسب الزمان والمكان .

ويرى بعض الفقهاء وجوب اللجوء لقواعد العدالة لتكملة مصادر القانون الدولى العام، وأشارة هؤلاء إلى عدة أحكام صدرت من محكمة التحكيم الدولية الدائمة تؤيد رأيهم، وعلى الخصوص إلى حكمها فى قضية شركة الملاحة النرويجية سنة 1922 الذى قررت فيه أنه يجب الحكم وفقاً لمبادئ العدالة عند انعدام القواعد القانونية .

ويقيد النظام الأساسى لمحكمة العدل الدولية حق تلك المحكمة فى الفصل فى القضايا وفقاً لمبادئ العدالة والانصاف، بضرورة الحصول على موافقة الدول المتنازعة على ذلك . فلا يمكن للمحكمة أن تلجأ لمبادئ العدالة والأنصاف لتستمد منها الحكم القانونى ما لم تمنحها الدول المتنازعة هذا الحق .

ولا يفوتنا أن ننبه إلى أن الفصل فى نزاع دولى وفقاً لمبادئ العدالة يختلف عن الفصل فى نزاع دولى على أساس المصلحة ودون تقيد بالقانون . وذلك لأن العدالة تعتبر مصدراً للقواعد القانونية ؛ ولا يجوز الفصل فى نزاع على أساس تطبيق القانون الا بموافقة الاطراف على ذلك .

2-   قرارات المنظمات الدولية كمصدر للقانون الدولى :

استقر الفقه الدولى على القول بأن المنظمات الدولية تساهم فى أنشاء القواعد القانونية الدولية بصورة مختلفة .

وتأخذ المساهمة التشريعية للمنظمات الدولية عادة شكل قرارات ملزمة تصدر عن أجهزة المنظمة الدولية أو الأجهزة المتفرعة عنها فى حدود اختصاص . ومن أمثلة ذلك القرارات التى تصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة فى الشئون التنظيمية والادارية : كالقرارات الخاصة بالعضوية، وبالشئون المالية وشئون الموظفين، وبالأقاليم الموضوعة تحت الوصاية . وبانشاء وتنظيم قوات حفظ السلام .

أما التوصيات التى تصدر عن أجهزة المنظمات الدولية فلا يمكن رغم قيمتها الأدبية اسباغ الصفة التشريعية عليها الا إذا كانت تعكس وجود اتفاق عام حول وجود مبادئ قانونية معينة أو تؤكد وجود عرف دولى واجب الاحترام أو تساهم فى انشاء عرف دولى جديد .

ويحتفظ بعض الفقهاء بالنسبة للقوة التشريعية لقرارات المنظمات الدولية على أساس أن موافقة أعضاء منظمة دولية على قرار معين يخضع لاعتبارات الدبلوماسية الجماعية وتختلف عن الاعتبارات الواقعية التى تفرضها المصالح الوطنية على الدولة فى علاقاتها الثنائية خارج المنظمة الدولية .

 

                                    ** الباب الثانى **

                       الصفة الالتزامية لقواعد القانون الدولى العام

                                   الفصل الأول

                   اساس القوة الالزامية لقواعد القانون الدولى العام

الخلافات القديمة :

منذ القانون الدولى العام, قام الخلاف بين الفقهاء حول طبيعة قواعده, وشك البعض فى قوتها الملزمة. فلقد أنكر هوبز وأوستن وأتباعهما فى انجلترا ؛ وهجل وأتباعه فى ألمانيا وجود قانون دولى. وذكر هؤلاء أن قواعد القانون الدولى عبارة عن مجرد قواعد أخلاقية لا يترتب على مخالفتها أية مسئولية قانونية .

ولقد عارضت أغلبية الفقهاء هذه الآراء لأنها تنبنى على فكرة خاطئة عن القاعدة القانونية .

فمدرسة أوستن تعرف القانون تعريفا ضيقا فهو مجموعة من القواعد التى تحكم سلوك الانسان والتى توضع وتنفيذ بواسطة سلطة سياسية عليا. ويشترط لوجود قاعدة قانونية توافر ثلاثة عناصر :

(أ‌)          أن تكون القاعدة من عمل سلطة سياسية عليا هى السلطة المشرعة .

(ب‌)     أن تكون هناك محاكم خاصة تتولى الرقابة على مدى المطابقة بين تصرفات الأفراد وبين القاعدة القانونية .

(جـ) أن يوجد جزاء منظم يطبق على من يخالف القاعدة القانونية .

واذا كان التعريف السابق صحيحا فالقانون الدولى ليس بقانون, لأنه مجموعة من القواعد تنظم تصرفات الدول ذات السيادة, ومن المعلوم أنه لا توجد قوة سياسية لها ارادة أعلى من ارادات الدول تستطيع أن تفرض عليها القانون الدولى العام وتلزمها باحترامه .

ونلاحظ على هذا الرأى ما يلى :

لقد خلط الفقهاء المنكرون للقانون الدولى العام بين فكرتين مختلفين تمام الاختلاف : فكرة التشريع وفكرة القاعدة القانونية, لقد قالوا أن القاعدة القانونية هى القاعدة المنظمة للتصرفات البشرية التى تسنها وتنفذها سلطة سياسية عليا, وهذا القول ان صدق على التشريع بالمعنى الضيق الذى هو بلا جدال من أهم مصادر القانون, فهو لا يصدق على غير ذلك من القواعد القانونية كالقواعد العرفية مثلا .

فليس ضروريا لكى توجد قاعدة قانونية أن تصاغ ويصدر بها تشريع من سلطة عليا, كما أنه ليس من الضرورى أن توجد محاكم خاصة تتولى تطبيق تلك القاعدة, والواقع أن القواعد القانونية ظهرت فى المجتمعات القديمة قبل أن تعرف التشريع وقبل أن توجد المحاكم المنظمة .

والجزاء المنظم الذى تباشره سلطة تنفيذية لم يكن موجودا فى كل المجتمعات . وهو ان يساعد فى المجتمعات المتطورة على نفاذ القاعدة القانونية فانه ليس شرطا لوجودها , لايمكن القول بأن القانون الداخلى يمكنه كفالة تنفيذ القواعد القانونية بصورة مطلقة. وحتى فى أحسن الدول من الجزاء الذى تطبقة السلطات العامة فهناك جرائم لا يعاقب مرتكبوها لعدم الاستدلال عليهم, ومدينون لايمكن التنفيذ عليهم لاعسارهم .

ومن المسلم به أن بعض قواعد القانون الداخلى يصعب حمايتها بواسطة جزاء منظم, فمن المعلوم أنه لا يمكن اتخاذ وسائل تنفيذية فى مواجهة الدولة, وأن تطبيق قواعد الدستور الخاصة بالعلاقات بين السلطات العامة لايتم فرض احترامها بواسطة وسائل القهر والجبر, بل يتوقف فى العادة على مدى تمسك السلطة التنفيذية لسيادة القانون .

ومن ثم يكون جزاء القاعدة القانونية عبارة عن رد فعل المجتمع تجاه العمل المخالف للقانون, وهو يرتبط بمدى شعور أفراد المجتمع بضرورة احترام القاعدة القانونية, ولا يتوقف هذا الشعور العام بداهة على ما يملكة الحكام من وسائل القهر, لأنه أعلى من سلطة الحاكم وهو الضمان الاساسى لاستقرار القانون واحترامه .

 

                                المبحث الأول

                  الاعتراف بالصفة الالزامية للقانون الدولى 

1-   توافر شروط القاعدة القانونية فى قواعد القانون الدولى العام :

  من المتفق عليه فى الوقت الحالى أن قواعد القانون الدولى العام تنشأ بطريقة سليمة, وتحتوى على جميع شروط وجود القاعدة القانونية .

 ولا أدل على ذلك من أن أشخاص القانون الدولى وبصفة خاصة الدول لاتنكر الصفة الالزامية لذلك القانون، فالدول تعقد المعاهدات وتلتزم بها، وتشترك فى تكوين العرف الدولى وتحترمه، وتعترف بصفة عامة بقواعد القانون الدولى، وهذا السلوك من جانب الدول يعتبر نتيجة حتمية لرابطة التضامن الدولى ولضروريات الحياة فى المجتمع الدولى .

وتعتبر المحاكم الدولية أن الالتزام الواردة فى المعاهدات التزامات قانونية وليست مجرد التزامات أخلاقية، كما تعتبر تفسير المعاهدات مسالة قانونية وليست سياسية .

أما الزعم القائل بأن الدول تبرم المعاهدات ثم تعود لنقضها حينما تجد ذلك من مصلحتها فهو يدل على سطحية فى التفكير، فمن الثابت أن الدول تجد من مصلحتها كقاعدة عامة احترام المعاهدات، لأنها تتضمن تنظيماً ضرورياً لمصالحها المشتركة، أما المعاهدات التى يتم الآخلال بها أحياناً فهى عادة المعاهدات السياسية التى لا تتلاءم مع الواقع الاجتماعى الذى يسعى لفرض وجوده . وتسعى الدول دائماً إلى ايجاد تبريرات قانونية لأفعالها المخالفات للقانون الدولى، وذلك لشعورها بالصفة الالزامية لذلك القانون  لخشيتها من رد فعل المجتمع الدولى .

 وإذا كان المجتمع الدولى لا يملك حتى الآن سلطات خاصة به وظيفتهاانشاء القواعد القانونية وكفالة تنفيذها، فهذا الأمر ليس بغريب، وذلك لانه مجتمع حديث إذا ما قورن بالمجتمع الوطنى، ويثبت التاريخ أن كافة المجتمعات البدائية أو غير المتقدمة كانت لا تملك مثل هذه السلطات المنظمة .

فالدول رغم التزامها بقواعد القانون الدولى لا تخضع لسلطة عليا وذلط لانعدام السلطات الدولية أو لضعفها، والذى يحدث فى المجتمع الدولى هو حلول السلطات الوطنية محل السلطات الدولية فى القيام بالاختصاصات التشريعية والتنفيذية والقضائية، فالدولة تنشئ قواعد القانون الدولى التى تلتزم بها وتطبقها،فتشترك فى تكوين العرف الدولى وتعقد المعاهدات وتساهم فى المؤتمرات الدولية وفى أعمال المنظمات الدولية التى تكون طرفاً فيها، وهى التى تقدر كقاعدة عامة مدى المطابقة بين تصرفاتها وبين قواعد القانون الدولى  وكذلك مدى احترام الدول الأخرى للقانون الدولى، كما أن مسئولية توقيع الجزاء فى المجتمع الدولى تقع على الدول بصفة فردية أو جماعية .

 ومن الممكن وجود قواعد القانون الدولى وبدون أن يحميها جزاء منظم تطبقه سلطة منظمة .

فالجزاء، كما قدمنا، عبارة عن رد فعل المجتمع تجاه عمل خارج على القانون، فهو وسيلة الغرض منها ضمان تنفيذ القاعدة القانونية وحمايتها بتطبيق جزاء اجتماعى حتى لو يكن هذا الجزاء منظماً .

2-   صور الجزاء فى القانون الدولى العام :

وجزاء قاعدة القانون الدولى جزاء غير منظم، فهو لايصدر كقاعدة عامة عن سلطة عليا، ولاتوجد أجهزة عسكرية دولية تختص بتنفيذه. وللجزاء فى القانون الدولى عدة صور :

( أ ) جزاءات تتضمن ممارسة ضغطاً سياسياً : ومثالها الاحتجاج الدبلوماسى على تصرف مخالف للقانون الدولى أو اعلان دولة أو أكثر تاييدها لاحترام قاعدة دولية معينة . وقد يأتى الضغط السياسى بين مؤتمر دولى أو منظمة دولية كاستنكار مؤتمرات دول عدم الانحياز مؤتمرات رؤساء دول الوحدة الافريقية لسياسة التمييز العنصرى التى تمارسها جنوب أفريقيا، وكقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة باستنكار وادانة سياسة التفرقة العنصرية التى تمارسها جنوب افريقيا .

( ب ) جزاءات قانونية : ومثال عدم الاعتراف بدولة أو بحكومة أو بموقف يتضمن مخالفة لأحكام القانون الدولى، أو اعلان بطلان معاهدة لعدم توافر شرط من شروط أنعقادها أو لمخالفتها للقانون الدولى العام، أو فسخ معاهدة لخروج احدى الدول الأطراف على نص من نصوصها  .

( جـ ) جزاءات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية : ومن الامثلة على ذلك قطع العلاقات الدبلوماسية، وطرد أحد أعضاء بعثة دبلوماسية، واجراءات المقاطع الاقتصادية، ووقف الخدمات البحرية الجوية أو البريدية، وقطع التعامل الثقافى ، وفرض الحصر البحرى، واستعمال القوة المسلحة دفاعاً عن النفس .

3-   الاتجاه نحو تدعيم قواعد القانون الدولى العام :

    مع أن الطريق لايزال طويلاً وشاقاً قبل أن تقبل الدول الخضوع لسلطة أعلى منها . الا أنه يمكن القول أن الدول تتجه إلى تدعيم قواعد القانون الدولى

( أ ) فلقد دونت كثير من قواعد القانون الدولى العام فى مجموعة من الاتفاقات الدولية مثل اتفاقات لاهاى 1889، وسنة 1907، وعهد عصبة الأمم سنة 1919، وميثاق الأمم المتحدة1945. ولقد نشطت حركة تدوين القانون الدولى العام، والغرض منها تدوين قواعد القانون المبعثر بين مختلف مصادره ونشرها على الناس فى مجموعات دولية على غرارمجموعات القوانين الداخلية . وتأخذ هذه المجموعات شكل اتفاقيات دولية متعددة الأطراف كاتفاقيات جنيف سنة 1958 التى تحتوى على قانون العلاقات الدبلوماسية، واتفاقية فينا سنة 1963 الخاصة بالعلاقات القنصلية؛ واتفاقية بروكسل سنة 1962 الخاصة بمسئولية مستغلى السفن النووية، واتفاقية فينا سنة 1963 الخاصة بالمسئولية عن الأضرار الذرية، واتفاقية فينا سنة 1969 الخاصة بالمعاهدات .

( ب ) وأكثر من ذلك فلقد نظمت الوظيفة القضائية فى المجتمع الدولى تدريجياً، فوجدت هيئات التحكيم التى أعطتها الدول اختصاص الفصل فى بعض المنازعات . وقامت مجالس الغنائم فى كل دولة بتطبيق قواعد الحرب والحياد، وأنشئت فى لاهاى فى سنة 1899 على نطاق أوسع، وبصفة دائمة بمحكمة التحكيم الدولى الدائمة، كما وجدت منذ سنة 1920محكمة العدل الدولية الدائمة والتى أعيد تنظيمها سنة 1945 باسم محكمة العدل الدولية .

( جـ ) ورغم تردد الدول فى قبول الخضوع لسلطة تنفيذية عليا، فلقد وجد نوع من الجزاء المنظم فى المحيط الدولى، تختص بتطبيقه الأمم المتحدة . وينحصر هذا الجزاء فى الوقت الحاضر فى نصوص الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة التى زودت مجلس الأمن بسلطات واسعة فيما يتعلق بالقمع بما فى ذلك استخدام القوة المسلحة لرد العدوان، وفى المحاولات التى تبذلها الجمعية العامة للأمم المتحدة لمباشرة بعض التدابير العسكرية وشبة العسكرية بقصد المحافظة على السلم والأمن الدولى .

  ويتوقف تطبيق النصوص الخاصة بالجزاءات فى ميثاق الأمم المتحدة كقاعدة العامة على موافقة الدول الخمس الكبرى التى تملك الاعتراض على قرارات مجلس الأمن الأمر الذى يجعلها محدودة الاهمية .

 

                                       ** المبحث الثانى **

                          أساس التزام الدول بقواعد القانون الدولى العام

بذل فقه القانون الدولى العام مجهودات جديرة بالاعجاب لتفسير التزام الدول بقواعد القانون الدولى . ومن الممكن تقسيم فقهاء القانون الدولى إلى مدارس متعددة .

وتعتبر مدرسة القانون الطبيعى أقدم المدارس وهى تجعل مصدر القانون الدولى مجموعة من المبادئ المستمدة من العقل وطبيعة الأشياء . ثم ظهرت المدارس الوضعية التقليدية التى تؤسس القانون الدولى على الاتفاق الذى بين الدول أصحاب السيادة .

وأخيراً ظهرت المدارس الحديثة – كالمدارس القاعدية والمدرسة الاجتماعية وقد سماها البعض بالمدارس الموضوعية لأنها تؤسس القانون الدولى على اعتبار موضوعية خارجة عن ارادة الدول .

1-   مدرسة القانون الطبيعى :

تقرر مدرسة القانون الطبيعى أن الدول ذات السيادة تتقيد فى علاقاتها المتبادلة بقواعد مصدرها طبيعة الانسان وطبيعة الدولة هى قواعد القانون الطبيعى . وقواعد القانون الطبيعىقواعد عادلة وصحيصة لأن مصدرها الطبيعة والعقل الانسانى والحقوق اللصيقة بالانسان . ومن أهم زعماء هذه المدرسة العالم الألمانى بيفوندورف . ويذهب اتجاه آخر أن مصدر القانون الطبيعى وهو الارادة الالهية .

واتجه بعض الفقهاء كالعالم الهولندى جروسيوس والعالم السويسرى فاتل إلى أمكان الاستعانة بقواعد مستمدة من العرف الدولى والاتفاقات الدولية إلى جانب القانون الطبيعى .

ولقد تعرضت نظرية القانون الدولى الطبيعى للنقد لأنها تخرج عن نطاق القانون بالمعنى الدقيق ولا يمكن أن تعتبر أساساً له . فالقانون الطبيعى يختلط أحياناً بالمبادئ الدينية، وأحياناً أخرى تكون له صفة شخصية وذلك حين يترك تحديد قواعده للعقل الانسانى، ومن هنا جاز أن يكون التحديد تحكيماً كما أن الأخذ بنظرية القانون الطبيعى يؤدى إلى اعاقة تطور القواعد القانونية وفقا للاحتياجات الاجتماعية المتغيرة .

ونلاحظ أنه رغم اضمحلال مدرسة القانون الطبيعى نتيجة لاستقرار المدارس الوضعية فى القرن التاسع عشر فقد استمر بعض الفقهاء فى تأييدها حتى فى الوقت الحاضر .

ويلوح أن السبب فى التمسك بالقانون الطبيعى هو الرغبة فى الاستناد إليه لمهاجمة بعض المعاهدات والاتفاقات والاوضاع الدولية على أساس أنها تخالف القانون الطبيعى .ونلفت النظر أخيراً إلى أن لجنة القانون الدولى التابعة للأمم المتحدة قد تأثرت عند أعلانها لاعلان حقوق وواجبات الدول سنة 1949 بفكرة القانون الطبيعى؛ وذلك على اعتبار أن الطبيعين يعتقدون بأن هناك حقوقاً تثبت للدول بحكم وجودها كالحق فى البقاء والحق فى المساواة وفى الملكية، وهى حقوق مستمدة من القانون الطبيعى .

2-   المدرسة الوضعية أو الارادية :

    نقطة البداية فى المدرسة الوضعية أن الدول تتمتع بالسيادة ولا تخضع لسلطة عليا، ويقوم القانون الدولى بالتنسيق بين ارادات الدول ذات السيادة . وهكذا تجعل هذه المدرسة من ارادة الدول الصريحة أو الضمنية أساس الالتزام بقواعد القانون الدولى العام فالقانون الوطنى يعبر عن ارادة الدولة فى داخل اقليمها، والقانون الدولى ينبع من ارادة الدول كما تظهر فى المعاهدات والعرف الدولى . ومن الواضح أن المدرسة الوضعية تأثرت بظروف المجتمع الدولى فى القرن التاسع عشر حيث كانت الاعتبارات السياسية واعتبارات المصلحة الوطنية واعتبارات القوة تطغى على أى اعتبار قانونى .

ولقد تفرع عن المدرسة الوضعية مذهبان .

( أ ) مذهب التقييد الذاتى للارادة :

زعيم هذا المذهب الفقية الالمانى يلنيك . الذى قال " عندما تتعارض ارادة الدولة مع القانون الدولى العام، فيجب أن يتوارى هذا الأخير، لأن الدولة فى مركز أسمى من كل الكبادئ القانونية ".

وتتمتع الدولة وفقاً لهذا المذهب، بالسيادة المطلقة، ولاتخضع لأية سلطة عليا، وهى تملك بموجب ما لها من سيادة أن تقيد ارادتها بنفسها، وهذا ما يحدث عندما تدخل فى علاقات مع غيرها من الدول . فخضوع الدولة للقانون الدولى العام مبناة اراداتها المنفردة .

ولقد لاقت نظرية التقيد الذاتى للارادة نقداً مريراً، ولأنه إذا كانت الدول تقيد اراداتها بنفسها، نتج عن ذلك حتماً امكان تحللها من الالتزامات والقيود التى قبلتها متى رأت ذلك . وفى هذا هدم لفكرة القانون الدولى . لأن القيد يوكل مفتاحه لنفس الشخص المقيد لا يعد قيداً .

وقد حاول يلنيك اسعاف نظريته بقول أن الدولة تجد من مصلحتها التقيد بقاعدة القانون الدولى العام، ولكن واقع الامور يثبت أن الدولة إذا شعرت أنها مطلقة التصرف فى الميدان الدولى، وجدت فى بعض الأحوال انه من المناسب لمصلحتها عدم التقيد بقاعدة ما من قواعد القانون الدولى .

ولا نزاع فى أن الدولة حينما تلتزم بقاعدة القانون الدولى لا تفعل ذلك باختيار المطلق، بل لأن ذلك الالتزام مفروض عليها ولا يملكنها التلل منه .

( ب ) مذهب الاادة المشتركة :

زعيم هذه المدرسة الفقية الالمانى تريبيل، الذى يأخذ بالمذهب الارادى ولكن على نحو جماعى . فلقد نشأت قواعد القانون الدولى فى نظره نتيجة للرضا العام أى لتوافق ارادات الدول ولاشتراكها فى انشاء تلك القواعد التى تعلو على الارادة النفردة لكل دولة .

على أننا إذا وضعنا هذا المذهب موضع التقدير وجدناه لا يبين، شأنه فى ذلك شأن المذهب السابق، الأساس الذى يمتنع بمقتضاه على دولة ما أن تتحلل من الآرادة الجماعية . كما أنه لا يفسر سبب التزام الدول التى تدخل فى الجماعة الدولية، بجميع قواعد القانون الدولى مع أنها لم تشترك باراته فى تكوينها .

ومما تقدم يتبين لنا قصور المدرسة الارادية فى مختلف صورها عن تفسير أساس الالتزام بقواعد القانون الدولى . فارادة الدولة لاتفسر كل شئ، والقاعدة القانونية حتى لو كانت قاعدة عرفية لا تعتبر ملزمة لمجرد أن الدول اتفقت على اتباعها . بل لانها تعلو على ارادة تلك الدول .

3-   المدرسة الواقعية أو مدرسة صراع القوى :

تقرر هذه المدرسة أن تمسك الدول بسيادتها وسعيها للحصول على القوة وللسيطرة على غيرها هو الطابع المميز للعلاقات الدولية فى الماضى والحاضر . وتتنافس الدول فيما بينها للحصول على أكبر جانب من القوة بعناصرها المختلفة من اقتصادية ومعنوية وعسكرية .

والواقع أن علاقات الدول ستظل دائماً عمليات قوة طالما أن الدول تستطيع أن تستخدم مالديها من قوة لتحقيق أهدافها والدفاع عن مصالحها بدون اعتداد بالمبادئ القانونية أو الاخلاقية . والقانون الدولى يعبر عن صراع القوى وتوازنها، وهو محدود الأهمية لان الدول تستطيع التلل منه متى وجدت لديها القوة اللازمة لفرض اراتها على الدول الاخرى .

4-   المدرسة القاعدية أو مدرسة القانون المجرد :

يقرر العالم النمساوى كلسن أن أساس صحة كل قاعدة قانونية يرجع إلى وجود قاعدة أخرى تقرها وتأمر باحترامها .

وعلى هذا لا يمكن اعتبار النظام القانونى نتيجة لارادة فرد أو شخص معنوى بل هو مجموعة من القواعد تعتمد كل قاعدة منها على قاعدة أعلى .

ويقرر كلسن أن القانون الدولى يعلو على القانون الداخلى، ويكون معه نظاماً واحداً من القواعد يأخذ شكلاً هرمياً تستمد فيه كل قاعدة قوتها من قاعدة أعلى .

ويقول كلسن انه يجب أن نصل بالضرورة إلى القاعدة الأولى التى تلزم الدول باحترام القانون الدولى  وهو هنا يلجا إلى الاقتراض شانة فى ذلك شأن الباحث فى العلوم الطبيعية – ويقول أن القاعدة الأولى يفترض أنها القاعدة العرفية التى تقرر أن العقد شريعة المتعاقدين .

ولقد استهوت نظرية كلسن ألباب الكثيرين لبساطتها، ولا تباعها طريقة البحث الرياضى المتبع فى العلوم الطبيعية، ولكن وجهت إليها مع ذلك انتقادات كثيرة . والواقع أنه لايمكن من الناحية التاريخية اثبات الافتراض الذى قامت عليه هذه النظرية، كما أنه لايمكن تفسير نشأة القاعدة الاولى التى تولت عنها قواعد القانون الدولى ، وعلى ذلك فهى نظرية تحكمية ولا يمكن قبولها . يضاف إلى ذلك أن الدولة ليست مجموعة من القواعد القانونية، بل هى مجموعة من المواطنين، ونحن نعتقد أن المجتمع الدولى أيضاً ليس مجموعة من القواعد القانوني بل هو مجموعة من الشعوب، فاذا اردنا البحث عن اساس الزام القاعدة القانونية وجب علينا الخروج من دائرة القانون المجرد. والاتجاه نحو المجتمعات البشرية وتحليلها لنصل إلى ارأى السليم .

وتقترب نظرية العالم النمسوى ( فردروس ) من نظرية كلسن وتمتاز عليها فى عدم ميلها إلى قبول الافتراضات . فاذا كان فردروس يجعل من قاعدة أن " العقيدة شريعة المتعاقدين " أساس القانون الدولى العام، الا أنه يفسر ذلك باعتبارات أخلاقية وأدبية، فهذه القاعدة تمثل فى نظره القيمة المطلقة وفكرة العالة .

5-   المدرسة الاحتماعية :

ينكر العالم الفرنسى ديجى فكرة سيادة الدولة التى يصفها بأنها حادث اجتماعى، قامت نتيجة الاجتماعى، ومهتها العمل على صون ذلك التضامن وتدعيمة، وكما ينشأ القانون الوطنى كنتيجة حتمية للتضامن الاجتماعى ينشأ القانون الدولى بنفس الطريقة، تعبير عن التضامن بين الشعوب التى تكون المجتمع الدولى، وهو ضرورى لصون ذلك التضامن وتدعيمه .

فديجى لا يتصور امكان الفصل بين القانون والمجتمع، فحيثما وجد مجتمع تنشأ القواعد القانونية، وهذه القواعد ليست عملاً من أعمال التجريد العقلى بل هو وليدة احتياجات ذلك المجتمع .

ولقد انتقد البعض نظرية ديجى لأنه رابطة التضامن الاجتماعى لاتكفى وحدها كأساس للقاعدة القانونية، فمن الملاحظ أنه فى بعض الفصائل الحيوانية توجد وحدات اجتماعية، فخلايا النحل مثلاً ترتبط كل خلية منها يرابطة قوية من التضامن، ولا يوجد ما يبرر القول أن هذه الرابطة الغريزية يتولد عنها حتماً نظام قانونى ما .

ولقد أحس ديجى بوجاهه هذا الانتقاد، فأضاف إلى رابطة التضامن فكرة الشعور العام بالتضامن وبالعدالة، وهى أفكار متصلة بطبيعة الانسان .

ولقد جاء العالم الفرنسى جورج سل وهو من مدرسة ديجى فعرض النظرية الاجتماعية بشكل جديد وعلى عناصر ايجابية لها أهميتها الكبرى .

فوفقاً لمذهب جورج سل يولد الحدث الاجتماعى- وهو مبنى على ضروريات الحياة فى المجتمع – شعوراً عاماً بضرورة تنظيم المجتمع على أساس هذه الضروريات، كما ينشئ سلطة تتشكل تدريجياً لتهيمن على سير المجتمع .

وينشأ النظام القانونى نتيجة اجتماع هذين العاملين : الشعور العام بالحاجة إلى قواعد قانونية، واستجابة السلطة لهذا الشعور . وهذه الظاهرة الحيوية ظاهرة عامة توجد فى المجتمع الوطنى، كما توجد فى المجتمع الدولى الذى لا يعتبر جورج سل مجتمعاً من دول أو هيئة من الملوك ورؤساء دول بل مجموعة من شعوب متضامنة .

ويتميز القانون الدولى فى نظر هذا الفقية بخصيصتين هامتين :

1-   تدرج القواعد القانونية :

تندرج القواعد القانونية بعضها فوق بعض، وتعلو قواعد القانون الدولى على قواعد القانون الوطنى، وينبنى على ذلك أن الدولة لا تتمتع بالسيادة، بل تباشر اختصاصاً يحدده القانون الدولى .

كما أن قواعد النظام الوطنى تحكم وتقيد قواعد الأنظمة الاقليمية والمحلية كأنظمة الولايات والأقاليم التى تدخل فى تكوين الدولة .

2-   ازدواج الوظيفة :

من الملاحظ فى المجتمع الدولى، أنه لايمكن القول دائماً بوجود سلطات مشرعة وقضائية ومنفذة، وينبنى على ذلك أن الوظائف الأساسية للمجتمع الدولى كثيرأ ما تباشر بواسطة الدول ذاتها .

وهكذا نجد أن السلطات الوطنية الخاصة بكل دولة تقوم بوظيفتين :

وظيفة وطنية وهى الوظيفة الطبيعية، ووظيفة دولية إذ تشترك هذه السلطات فى وضع القواعد الدولية وتطبيقها استجابة للشعور العام بحاجة المجتمع الدولى لهذه القواعد، ولاشك أن هذا نقص كبير يشوب تكوين المجتمع الدولى ويعرقل اطراد نمو القانون الدولى والمنظمات الدولية .

تقرير النظريات المتعلقة باساس القوة الالزامية للقانون الدولى :

إذا ما ألقينا نظرة شاملة على النظريات السابقة وجدنا أن كافة الآراء تدور حول الخلاف الآتى :

هل القاعدة القانونية الدولية قاعدة اتفاقية تنشئها الدول بارادتها، وأنه لا وجود لهذه القاعدة خارج نطاق ارادة الدول، أم هى قاعدة يتم فرضها على الدول بناْ على اعتبارات تعلو على ارادتها ؟

ونحن نعتقد أنه يجب للفصل فى هذا الخلاف أن نراعى الظروف الخاصة بالمجتمع الدولى، والتغيرات العميقة التى طرأت عليه فى السنين  الأخيرة، فالنظريات الوضعية الارادية ونظرية صراع القوى كانت تتناسب مع حالة المجتمع الدولى فى الماضى حينما كانت الدول تتمسك بسيادتها المطلقة، بحيث انحصرت وظيفة القانون الدولى فى التنسيق بين الارادات الوطنية .

أما فى الوقت الحال فلا نشك فى أن النظريات الموضوعية الاجتماعية تقدم أدق التفسيرات للواقع الدولى، لأنها تقرر حقيقة مقتضاها أن الحياة الانسانية أوجدت مجتمعاً دولياً يربط بين الشعوب على اختلاف أجناسها واديانها وعقائدها السياسية . وقد فرض الواقع الدولى المتجدد مجموعة من القواعد التى تحكم التعامل بين الدول، وهى قواعد تلزم الدول بحكم عضويتها فى المجتمع الدولى، وإذا انحرفت دولة ما عن هذه القواعد كان الجزاء اجتماعياً وهو صادر عن احساس الشعوب بأهمية هذه القواعد، احساساً يدفعهم إلى الدفاع عنها، وتحميل من يخرج عليها المسئولية الدولية .

ونضيف أن النظريات الاجتماعية هى التى تنسجم مع الاتجاهات الجديدة للقانون الدولى وبصفة خاصة تلك المتعلقة باقامة تنظيم دولى، ويمنع استخدام القوة فى ميدان العلاقات الدولية، وضمان حماية دولية لحقوق الانسان ولحقوق الشعوب، واقامة نظام اقتصادى دولى جديد، وحماية البيئة الانسانية . ولقد لعبت الدول الاسيوية والافريقية دوراً بارزاً فى تأكيد هذه الاتجاهات الجديدة للقانون الدولى داخل الأمم المتحدة وخارجها .

اتجاه القضاء الدولى :

يبدو التطور الذى أشرنا إليه واضحاً من مراجعة أحكام القضاء الدولى :

( أ ) قضية اللوتس : أكدت محكمة العدل الدولية الدائمة فى قضية اللوتس فى 9 سبتمبر سنة 1927 أن القانون الدولى يحكم العلاقات بين الدول المستقلة، وأن القواعد القانونية التى ترتبط بها الدول تنتج عن اراتها. وتظهر هذه الارادة أما فى الاتفاقات الدولية واما فى العرف المتبع بصفة عامة، وفى الحكم تأكيد للنظريات الارادية فى مجال القانون الدولى .

( ب ) اتجه القضاء بعد الحرب العالمية الثانية إلى القول بأن قواعد القانون تنشأ نتيجة لضروريات الحياة فى المجتمع الدولى وهى لاتستند فقط إلى ارادة الدول

وفيما يلى بعض السوابق القضائية التى تؤيد الاتجاه الجديد :

1-   محاكمات نورمبرج :

لما انتهت الحرب العالمية الثانية، وقعت الدول الأربع الكبرى ( الولايات المتحدة ، الاتحاد السوفيتى، والمملكة المتحدة، والصين ) اتفاق لندن سنة 1945 التى قرر انشاء محكمة عسكرية دولية عليا تختص بمحاكمة كبار مجرمى الحرب التابعين لألمانيا وايطاليا . واعتبر ميثاق لندن أن تدبير أو تحضير أو ابتداء حرب يعتبر جريمة دولية يعاقب عليها بالاعدام أو بأية عقوبة أخرى ترى المحكمة أنه من المناسب تطبيقها.

ولقد قامت محكمة نورمبرج بتطبيق ميثاق لندن على جرائم ارتكبت قبل ابرامه، وذكرت أن الميثاق لم ينشئ جريمة حرب الاعتداء أو الجرائم ضد السلام ولكنه كشف عنها فقط، وأن العرف الدولى أوجد هذه الجرائم منذ عهد عصبة الأمم سنة 1919 الذى اعتبر الحرب عملاً غير مشروع فى بعض الاحوال .

والواقع أن محكمة نورمبرج حققت عملاً انشائياً فى دائرة القانون الدولى لا يمكن تفسيره على ضوء النظريات الارادية؛ وذلك لأنها طبقت لاول مرة مبدأ المسئولية الجنائية لحكام الدول عن اعلان حرب الاعتداء، كما قررت أن يتم عقابهم بواسط محكمة دولية، ولا يمكن اسناد هذه المبادئ لعرف دولى مستقر، كما أن المعاهدات التى أشارت إليها المحكمة كانت لاتتعلق بالمسئولية الجنائية الدولية .

2-   رأى محكمة العدل الدولية فيما يتعلق بحق الامم المتحدة فى المطالبة بتعويض سنة 1949 :

يظهر الاتجاه الجديد كذلك فى الرأى الاستشارى الذى أصدرته محكمة العدل الدولية فى 11 أبرايل سنة 1949 بمناسبة الاستفسار عن حق الأمم المتحدة فى تقديم طلب تعويض إلى دولة ليست عضوا فى الهيئة .

فاذا ما أخذنا بالنظريات الارادية استحال الاعتراف للأمم المتحدة وهى هيئة كونتها مجموهة من الدول , بالحق فى ممارسة اختصاص ما فى مواجهة الدول التى لم تشترك فى انشائها, ومن باب أولى الدول التى لم تكن موجودة وقت انشائها .

ولكن المحكمة رأت أنه من الممكن, وفقا للقانون الدولى العام, لخمسين دولة, أى لأغلبية العائلة الدولية فى ذلك الوقت, انشاء هيئة لها كيان مستقل تباشر اختصاصاتها فى مواجهة كافة الدول, وليس فقط فى مواجهة الدول التى اشتركت فى تكوينها, كما قررت المحكمة أن الأمم المتحدة تتمتع بكافة السلطات اللازمة لمباشرة اختصاصاتها.

وظاهر من هذا أن النظريات الارادية لا تكفى وحدها لدعم المبادئ التى قررتها المحكمة.

ولكن ينبغى أن نلاحظ أيضا أن المحكمة لم تأخذ بالنظرية الاجتماعية على اطلاقها؛ لأنها اشترطت اعتراف مجموعة كبيرة من الدول بالقاعدة القانونية لامكان القول بالزامها .

3-   قضية المصايد سنة 1951 :

وتأكد هذا الاتجاه أيضا فى قضية المصايد بين المملكة المتحدة والنرويج سنة 1951. فقد ثار النزاع حول حق النرويج فى تحديد طريقة احتساب بحرها الاقليمى . ولما عرض النزاع على محكمة العدل الدولية قررت المحكمة " أن تحديد المساحات البحرية كان له على الدوام صفة دولية, ولايمكن أن يترك للارادة المطلقة للدولة الساحلية كما تظهر فى تشريعاتها . وإن كان المتبع أن تحديد اتساع البحر الاقليمة يتم بارادة دولة واحدة, فان نفاذ هذا التحديد فى مواجهة الدول الأخرى يتوقف على القانون الدولى العام ".

4-   قضية نوتنبوهم سنة 1955 :

كما تأكد التفسير غير الارادى للصفة الالزامية لقواعد القانون الدولى فى حكم محكمة العدل الدولية فى قضية نوتنبوهم . فقد أوردت المحكمة فى هذه القضية مبدأ هاما مقتضاه وجوب تقييد حرية الدولة فى مادة الجنسية, وقررت أنه لا يجوز لدولة ليشنشتين مباشرة حمايتها الدبلوماسية على المدعو نوتنبوهم الذى تعتبره من رعاياها, وذلك على اعتبار أن اكتساب المذكور لجنسية تلك الدولة لا يقوم على رابطة حقيقية, ومن ثم لا يجوز الاحتجاج بهذه الجنسية فى مواجهة الدول الأخرى .

5-   قضيتا المصايد سنة 1974 :

كما أيدت محكمة العدل الدولية هذا الاتجاه فى الحكمين الصادرين فى سنة 1974 فى النزاع بين كل من ايسلنده والمملكة المتحدة, وايسلنده وألمانيا الاتحادية بشأن الاختصاص الاقليمى فى المصايد . فقد قضت المحكمة أنه ليس من حق ايسلنده بارادتها المنفردة أن تمنع السفن التابعة للمملكة المتحدة ولألمانيا اتحادية من الصيد فى المناطق الواقعة فى حدود المصايد المتفق عليها فى عام 1961.

 

                                الفصل الثانى

                 العلاقة بين القانون الدولى والقانون الداخلى

تمهيد :

ازدادت أهمية تحديد العلاقة بين القانون الدولى العام وبين القانون الداخلى نتيجة لنمو العلاقات الدولية مما أدى إلى ارتباط الدول بعدد كبير من المعاهدات التى تنظم مسائل دستورية وادارية واقتصادية واجتماعية وفنية كانت تترك أصلا للقانون الداخلى .

ومن المتصور ان تحتوى المعاهدات على قواعد قانونية تخالف القواعد المنطبقة فى الأنظمة القانونية الداخلية للدول المشتركة فيها . هذا فضلا عن التزام الدول باحترام العرف الدولى وبتطبيقه .

وكل ذلك يؤدى إلى زيادة الاهتمام بالبحث فى العلاقة بين القواعد القانونية الدولية وبين قواعد القانون الداخلى .

 

                                    المبحث الأول

           الخلاف بين مذهب ثنائية القانون وبين مذهب وحدة القانون  

انقسم الفقهاء الذين تعرضوا لبحث العلاقة بين القانون الدولى والقانون الوطنى إلى مذهبين كبيرين يحاول كل منهما أن يجد له سندا فى العرف الدولى .

اولا – مذهب ثنائية القانون :

يستند هذا المذهب على النظريات الوضعية الارادية . وهو يقرر أن القانون الدولى العام يعتبر نظاما قانونيا مستقلا ومنفصلا عن القانون الوطنى, وأن قواعد القانون الدولى, لاتنفذ فى داخل الدولة الا اذا صدرت على هيئة تشريع داخلى .

ودافع عن هذا المذهب بصفة خاصة الفقهاء الألمان, تربييل, وشتروب والفقهاء الايطاليون أنزيلوتى, وكافيلجيرى .

1-   حجج مذهب ثنائية القانون :

(أ‌)          اختلاف مصادر القانون الوطنى عن مصادر القانون الدولى :

فالدولة تنشئ القانون الوطنى بارادتها المنفردة بينما تشترك مع الدول الأخرى فى انشاء القانون الدولى . ويترتب على ذلك أن مصادر القانون الوطنى كالتشريع والعرف الوطنى لها طابع داخلى, أما مصادر القانون الدولى كالمعاهدات والعرف الدولى فهى تعبر عن اتفاق صريح او ضمنى تم بين دول مختلفة .

(ب‌)     اختلاف موضوعات القانونين : فالقانون الوطنى ينظم علاقات الأفراد فيما بينهم أو مع السلطات العامة. وهذه العلاقات تختلف اختلافا كليا عن العلاقات التى تخضع للقانون الدولى العام وهى علاقات الدول ذات السيادة فيما بينها فى وقت السلم وفى وقت الحرب.

(جـ) اختلاف التكوين السياسى للمجتمعين الوطنى والدولى : للمجتمع الوطنى سلطات عليا منظمة تتمتع باختصاصات واضحة وهى السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية . وهذه السلطات العليا غير موجودة فى المجتمع الدولى .  

2-   النتائج المترتبة على مذهب الثنائية :

     يترتب على الأخذ بمدذهب ثنائية القانون ما يلى :

(أ‌)          انفصال القانون الوطنى عن القانون الدولى : تقوم الدول باصدار قانونها الوطنى بارادتها المستقلة, وعلى كل دولة أن تراعى عند قيامها بوضع أحكامها نظامها القانونى الوطنى احترام قواعد القانون الدولى . فان لم تفعل الدولة ذلك, كأن قامت باصدار قانون يخالف التزاماتها الدولية, أو صدر عن محاكمها حكم يخالف قاعدة دولية أو حكما قضائيا دوليا, فلا يترتب على بطلان القانون أو الحكم فى داخل الدولة . وتكون الدولة مسئولة دوليا فقط فى مواجهة الدول الأخرى . ويترتب على ذلك أن القاعدة القانونية قد تكون نافذة فى القانون الدولى وغير نافذة فى النظام الداخلى لاحدى الدول؛ وهو أمر متصور الحدوث – وفقا للعرف الدولى – رغم التزام الدولة بتعديل تشريعاتها بما يتفق والتزاماتها الدولية .

(ب‌)     عدم اختصاص المحاكم الوطنية بتطبيق القانون الدولى, تقوم المحاكم الوطنية بتطبيق وتفسير القانون الداخلى فقط, وهى لا تملك وفقا لهذا المذهب تطبيق القانون الدولى أو تفسيره .

ويترتب على ذلك أن تصبح العلاقة بين القانون الدولى وبين القانون الوطنى لدولة معينة مشابهة للعلاقة التى توجد بين أى نظامين منفصلين تمام الانفصال كالعلاقة بين القانون الايطالى والقانون الانجليزى مثلا .

على أن أنصار مذهب ثنائية القانون يقررون امكان نفاذ قواعد القانون الدولى فى الأنظمة القانونية الداخلية وذلك فى أحوال معينة وهى :

1-الاحالة :

ومعناها أن يحيل القانون الداخلى على القانون الدولى للحصول على القواعد التى تنظم مسألة معينة . ومثال ذلك أن يقرر القانون الوطنى تمتع المبعوثين الدبلوماسيين بالحصانات, ويترك للقانون الدولى تحديد من يصدق عليهم وصف المبعوثين الدبلوماسيين أو تحديد مضمون الحصانات الدبلوماسية .

3-   التحويل :

ومعناها تحويل قاعدة معينة من قواعد القانون الدولى إلى قاعدة داخلية وذلك عن طريق اصدارها على هيئة تشريع داخلى. ويذهب المتطرفون من أنصار مذهب الثنائية إلى أن التحويل شرط ضرورى لتطبيق المعاهدات وكذلك العرف الدولى فى داخل الدولة.

4-   الادماج :

ومقتضاه أن يحتوى الدستور الداخلى على نص يبيح بصفة عامة اعتبار القانون الدولى جزءا من القانون الوطنى, وفى هذه الحالة تطبق المحاكم الوطنية قواعد القانون الدولى على اعتبار أن المشرع الوطنى قد سمح بتطبيقها, ويقرر الفقهاء الذين يأخذون بفكرة الأدماج أن القواعد الدولية التى يتم ادماجها هى القواعد التى لا تتعارض مع قواعد التشريع الوطنى .

ثانيا – مذهب وحدة القانون :

تعرض مذهب ثنائية القانون لانتقادات كثيرة وجهها إليه أنصار نظرية القانون الطبيعى مثل ليفير وأنصار النظرية الاجتماعية كديجى وسل, وأصحاب المدرسة النمساوية ككلس وفردروس . وكل هذه النظريات والمدارس تأخذ بمذهب معارض هو وحدة القانون .

1- حجج مذهب وحدة القانون :

يقرر مذهب وحدة القانون أن قواعد القانون الوطنى وقواعد القانون الدولى تشترط فى تكوين نظام قانونى واحد متكامل . وانتقد أنصار مذهب وحدة القانون مذهب ثنائية القانون ؛ لأنه يعطى أهمية لخلافات فى الشكل والمظهر لا يمكن أن تغير من الطبيعة الواحدة للقواعد القانونية . كما دللوا على وحدة القانون بما يلى :

(أ‌)          وحدة مصادر القانون : اذا اختلفت مصادر القانون الدولى عن مصادر القانون الوطنى من حيث الشكل , وكانت للمعاهدات مثلا أشكال وأوضاع تختلف عما يشترط بالنسبة للقانون الوطنى, نجد أنه من الناحية الموضوعية تتشابه المعاهدات مع التشريعات الوطنية لأنها جميعا تنشئ قواعد عامة وملزمة تنظم المجتمع الانسانى .

فضلا عن أنه لا يمكن القول بأن اختلاف مصادر قانونين معينين يفيد بالضرورة انتماء كل قانون إلى نظام مختلف عن الآخر . فمن الممكن تصور وجود نظام قانونى واحد له عدة مصارد, وهذا هو الوضع الشائع فى الأنظمة القانونية المختلفة .

(ب‌)     الوحدة الموضوعية للقانون : ان الادعاء القائل باختلاف موضوع القانون الوطنى عن موضوع القانون الدولى غير سليم . فواقع الأمور أن كل قاعدة عبارة عن قاعدة يقصد بها تنظيم التصريفات البشرية . إذا كان يلوح لاول وهلة أن قاعدة القانون الدولى العام تنظم علاقات دول وأنه لاعلاقة لها بالأفراد , فان التعمق فى البحث يوضح عدم دقة هذا الرأى . فالدول مجموعات كبيرة من الأفراد, وينطبق القانون الوطنى على هؤلاء الأفراد مباشرة, أما القانون الدولى العام فينطبق عليهم بطريق غير مباشر, كما أن كافة تصرفات الدولة الداخلية والخارجية تنعكس آثارها على رعاياها سواء بالخير أو بالشر .

(جـ) عدم مشروعية مخافة القانون الدولى : ان الاستناد إلى ما يحدث فى ميدان العلاقات الدولية أحياناً من مخلفة التشريع الداخلى لقواعد القانون الدولى، لا يعتبر دليلاً على انفصال القانون الوطنى عن القانون الدولى؛ لأن الدولة التى تصدر تشريعاً يخالف قاعدة دولية ترتكب عملاً غير مشروع من وجهة نظر القانون الدولى، ويترتب على ذلك مسئوليتها أمام الدول الأخرى، وهذا ما يؤكد ضرورة احترام التشريع الداخلى لقواعد القانون الدولى والصلة الوثيقة بينهما .

ونضيف أخيراً أن نظرية وحدة القانون تنسجم مع الظروف الجديدة للمجتمح الدولى، ومع المبادئ التى تحكم العلاقات الدولية فى الوقت الحالى، فنظرية وحدة القانون تستطيع أن توضح مثلاً الوضع القانون 

للأقاليم الموضوعة تحت الوصاية وهى أقاليم يتحدد نظامها الداخلى بوجب اتفاقيات دولية، ويكون لسكانها حقوق مستمدة من القانون الدولى، كما يكون لهم اللجوء للأمم المتحدة، كما أن هذه النظرية تفسر كيف أن بعض الأفراد تحدد اختصاصاتهم وحالاتهم القانونية بمقتضى معاهدات دولية، ومثال ذلك تحديد الحالة القانونية للأمين العام للأمم المتحدة فى ميثاق سان فرنسسكو وامكانه الاحتجاج بهذه الحالة فى أى مكان، وتحديد نظام السلام التابعة للأمم المتحدة بموجب قرارات من تلك المنظمة واتفاقات دولية .

ولا شك أنه فى مثل هذه الأحوال تتضح ضرورة الاعتراف بأن النظام القانونى بكافة قواعد الداخلية والدولية يكون وحدة متكاملة .

3-   النتائج المترتبة على مذهب الوحدة :

( أ ) تلتزم المحاكم الوطنية باحترام وتطبيق قواعد القانون الدولى، كما أنها تملك تفسير هذه القواعد، كما تلتزم كافة السلطات الوطنية والافراد باحترام قواعد القانون الدولى .

( ب ) من الممكن حصول تعارض بين قواعد القانون الوطنى وبين قواعد القانون الدولى؛ وذلك لأن قواعد القانون الدولى تعتبر جزء لا يتجزأ من النظام القانونى، لكل دولة. ويترتب على ذلك فى الرأى الراجح ضرورة تغليب قواعد القانون الدولى على ما يعارضعها من قواعد القانون الداخلى؛ لأن القواعد الدولية تعلو على القواعد الداخلية .

وعلى الرغم من سلامة الاسس التى يقوم عليها مذهب وحدة القانون فلقد استمر جانب من الفقة يعارض هذا المذهب ويقرر أنه مذهب خيالى لا يؤيده العرف المستقر . فالدول أقدم من القانون الدولى والقانون الوطنى سبق فى نشأته القانون الدولى، ولقد نشأت قواعد القانون الدولى مستقلة ومنفصلة عن الأنظمة القانونية للدول المختلفة .

 ولا يحتوى العرف الدولى على قاعدة تقرر أن قواعد القانون الدولى تعدل مباشرة وبطريقة أوتوماتيكية ما يخالفها من تشريعات داخلية .

 

                                       ** المبحث الثانى **

                                 الخلاف بين مذهب سيادة القانون الوطنى

                                     وبين مذهب سيادة القانون الدولى

اولاً : مذهب سيادة القانون الوطنى :

ذهب البعض إلى أنه فى حالة التعارض بين قواعد القانون الوطنى وقواعد القانون الدولى، تكون الغلبة لقواعد القانون الوطنى، والسبب فى ذلك أن الدول تتمتع بالسيادة ولا تخضع لسلطة عليا، ونفاذ القانون الداخلى ضرورة لكفالة احترام سيادة الدول واستقلالها .

ويضيف أنصار هذا الرأى أن الدستور هو الذى يعطى رئيس الدولة والبرلمان ما لهم من اختصاص فى ميدان العلاقات الدولية، وأن القانون الدولى ينشأ نتيجة مباشرة هذه الاختصاصات، ومن ثم فان الأولوية تكون للقانون الدستورى أى للقانون الداخلى .

ثانياً : مذهب سيادة القانون الدولى :

ان مذهب سيادة القانون الوطنى لا يمكن قبوله لأنه يهدم القانون الدولى من أساسه ويجعله عديم القيمة، كما يترتب عليه منطقياً أن الدول تستطيع أن تتحلل متى شاءت من قواعد القانون الدولى العام، وذلك يتنافى مع الالتزام المفروض على الدول باحترام القانون الدولى العام .

والنطق القانون يحتم علينا أن نرتب على خضوع الدولة للقانون الدولى العام سيادة قواعد هذا القانون على القواعد القانونية الوطنية، بمعنى أن يكون اختصاص الدولة مقيداً بقواعد القانون الدولى العام، وأن تكون القواعد القانونية الدولية هى الاساسية واجبة الاحترام .

 ولاشك أن سيادة القانون الدولى العام، هى النظرية التى يؤيدها الفقه الدولى الحديث وتتفق مع العرف الدولى، ومع الاتجاه إلى تقوية القانون الدولى ودعم سلطات المنظمات الدولية .

القضاء الدولى يؤكد وحدة القانون مع سيادة القانون الدولى :

يخلص من مراجعة أحكام القضاء الدولى أنها تؤكد العرف الدولى يعترف بوحدة القانون مع سيادة القانون الدولى وذلك على النحو الآتى :

1- قاعدة القانون الدولى تعلو على قاعدة القانون الداخلى :ففى قضية الألباما بين انجلترا والولايات المتحدة الامريكية التى فصلت فيها فى 14سبتمبر سنة 1871 محكمة تحكيم دولية انعقدت فى جنيف احتج الامريكيون بأن نقص القوانين الانجليزية لا يعفى السلطات الانجليزية من الالتزام باتباع العرف الدولى الثابت والخاص بواجبات المحايدين . ولقد أخذت المحكمة بهذا الرأى وادانت انجلترا .

كما قررت محكمة لاهاى الدائمة للتحكيم فى النزاع بين الولايات المتحدة الأمريكية والنرويج الخاص بشركة الملاحة النرويجية، أن القانون الوطنى لايطبق إذا كان يتعارض مع القانون الدولى .

وأكدت محكمة العدل الدولية الدائمة فى أكثر من قضية سيادة القانون الدولى العام . ويكفينا أن نشير إلى الحكم رقم 7 الصادر فى 25مايو سنة 1926 الخاص " ببعض المصالح الألمانية فى سيليزيا العليا البولونية " الذى قررت فيه المحكمة سيادة المعاهدات على القوانين الوطنية، وذكرت " أنه من ناحية القانون الدولى العام – الذى تقوم المحكمة بتطبيقة – يعد القانون الداخلى مجرد اظهار لارادة الدولة أو نشاطها " .

كما بينت المحكمة المذكورة فى قرارها الصادر فى 8ديسمبر 1930الخاص بالمناطق الحرة، أن فرنسا لايمكنها أن تستند إلى تشريعها الوطنى لكى تقيد من نطاق التزاماتها الدولية .

كما أن محكمة العدل الدولية الملحقة بالأمم المتحدة أكدت فى أحكامها سيادة القانون الدولى . ومن هذه الاحكام ما صدر فى قضية المصايد سنة 1951، وفى قضية حقوق رعايا الولايات المتحدة فى مراكش سنة 1952، وفى قضية نوتنبوهم سنة 1955.

كما أكدت المحكمة فى قضية حضانة الأطفال ستة 1958ضرورة احترام التشريع الداخلى للاتفاقات الدولية. ولقد بينت بعض الآراء الفردية الصادرة فى نفس القضية أن القانون الدولى يعلو على القانون الداخلى حتى فى حالة تعلق الأخير بالنظام العام وهذا رأى سليم وذلك على اعتبار أن فكرة النظام العام تحدث أثرها فى نطاق استبعاد تطبيق قانون أجنبى ولا يمكنها استبعاد تطبيق القانون الدولى الذى يعلو فى أهميتة على القوانين الداخلية لكافة الدول .

2- قاعدة القانون الدول العام تعلو على الدستور الداخلى : ولقد أخذت محكمة العدل الدولية الدائمة بهذا المبدأ بمناسبة الرأى الصادر فى 2فبراير سنة 1932، بخصوص معاملة المواطنين البولونيين والأشخاص الآخرين الذين هم من أصل بولونى أو الذين يتكلمون بولونية والذين يقيمون فى أرض دتزج الحرة .

فلقد أدى تطبيق دستور دتتزج، إلى انتهاك الالتزامات الدولية المفروضة على هذه المدينة الحرة فى مواجهة بولونية، وذكرت المحكمة أن الدولة لايمكنها أن تحتج بنصوص دستورها لكى تتخلص من الالتزامات المفروضة عليها فى مواجهة دولة أخرى بمقتضى قواعد العرف الدولى أو المعاهدات السارية .

3- المحاكم الدولية تعلو على المحاكم الوطنية : قد تفصل محكمة داخلية فى منازعات خاصة بالأجانب الذين أصيبوا بأضرار ناتجة عن أعمال تلك الدولة، فاذا عرضت هذه المنازعات فيما بعد على محاكم دولية فانها لا تتقيد – وفقاً للجارى عليه العمل – بأحكام المحاكم الوطنية .

 

                                 ** المبحث الثالث **

             المشكلات المتعلقة بعلاقات القانون الدولى بالقانون الداخلى

تثير العلاقة بين القانون الدولى والقانون الداخلى لكل دولة مجموعة من المشكلات العملية.

معيار توزيع الاختصاص بين القانونين :

ومن المهم أن نحدد بدقة العلاقات التى ينظمها كل من القانونين، فالقانون الداخلى ينظم علاقات الأفراد فيما بينهم أو مع السلطات العامة، أما القانون الدولى فينظم علاقات الدول فيما بينها .

وتبدو هذه التفرقة فى أحكام القضاء الدولى، فمثلاً فى قضية تتعلق بشروط خدمة دين عقدته دولة الصرب، وكانت غالبية حملة سنداته من الفرنسين، قررت محكمة العدل الدولية الدائمة أن هذا النزاع له موضوع وأحد يتعلق بوجود ومدى الالتزام الذى عقدته دولة الصرب مع حملة سندات قروضها فهو ينحصر فى علاقات من نوع ما يدخل فى نطاق القانون الداخلى .

ولكن هذا المعيار يصعب تطبيقه فى الوقت الحالى، نتيجة للتغيرات العميقة التى أصابت كيان المجتمع الدولى مما ظهر أثره فى تشعب وتعدد القواعد القانونية التى تحكم ذلك المجتمع فقد ظهرت مجموعة من القواعد الدولية لحكم علاقات كان من الفهوم أنها من نوع ما يدخل فى نطاق القانون الداخلى كالقواعد الخاصة بحماية الانسان وهى تفرض التزامات لصلح الفرد فى مواجهة الدول، والقواعد الخاصة بالأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتى، وهى تفرض التزامات لصالح تلك الاقاليم فى مواجهة الدول التى تمارس السيادة عليها .

على أن هذا التطور لا ينفى أنه لايزال من المقرر أن هناك مسائل معينة تترك للاختصاص الداخلى لكل دولة .

المسائل المتعلقة بالاختصاص الداخلى للدولة :

( أ ) الفقة التقليدى :

أن فكرة وجود مسائل معينة تتصل بالاختصاص المطلق للدولة من الأفكار التقليدية للقانون الدولى . ومؤدى تلك الفكرة انه من الضرورى أن يصان للدولة مقدار من النشاط لا يستطيع القانون الدولى العام أن يتدخل فيه فيتأكد بذلك استقلالها وتحترم سيادتها .

ولقد ثار النزاع منذ زمن طويل حول تحديد دائرة النشاط المحفوظ لمطلق تصرف الدول . واول ما أدخله الفقهاء فى هذه الدائرة المسائل المتعلقة بالشرف وبالمصالح الأساسية للدولة التى جرى العرف الدولى على اخراجها من نطاق الالتزام باللجوء إلى التحكيم الاجبارى، إذا كان هناك التزام فى هذا الشأن نتيجة لمعاهدة دولية .

 وحدد بوليتس الاختصاص المطلق فأدخل فيه المسائل المتعلقة بالهجرة، والتعريفة الجمركية، بالاسواق الاقتصادية، وتوزيع المواد الاولية وكذلك المسائل التى لا يوجد بشأنها نص فى القانون الدولى العام .

وأدخل البعض فى هذا النطاق كل المشاكل ذات الطبيعة السياسية. أما البعض الآخر فقال أن جميع المسائل المتعلقة بأركان الدولة : اقليم، سكان، حكومة تدخل فى النطاق المحفوظ لكل دولة .

وقد اكدت المادة 52من اتفاقية لاهاى الأولى لسنة 1907 أن لكل دولة طرف فى نزاع الحق فى اعلان أن النزاع لا يدخل فى الطائفة التى تخضع للتحكيم الاجبارى لتعلقة باختصاص المطلق .

( ب ) عهد عصبة الأمم :

نصت المادة 15فقرة 8من عهد عصبة الأمم، وهى الخاصة بواساطة . مجلس عصبة الأمم فى المنازعات بين الدول الاعضاء، على انه إذا دفعت دول ما بعدم اختصاص المجلس بناء على أن النزاع المطروح أمامه يتعلق بأمر يدخل بحسب قواعد القانون الدولى العام فى اختصاصها المطلق وأقر المجلس هذا الدفع، فانه فى هذه الحالة لايجوز تقديم أية توصية .

ومن المعلوم أن هذا النص أضيف بناء على طلب الرئيس ويلسون حتى يضمن موافقة مجلي النواب الأمريكى على عهد عصبة الأمم، ومن الواضح أنه لم يحدد المقصود بعبارة الاختصاص المطلق . ولقد قامت محكمت العدل الدولية الدائمة بتفسيرها فى رأيها الخاص بمراسيم الجنسية فى تونس ومراكش الذى صدر فى 7 فبراير سنة 1923 بمناسبة نزاع قام بين انجلترا وفرنسا بخصوص حق الدولة الأخرة فى فرض الجنسية على أشخاص مقيمين فى تونس ومراكش . وذكرت المحكمة فى رأيها أن عبارة أمور تدخل بحسب قواعد القانون الدولى العام فى الاختصاص المطلق لأحدى الدول الأطراف فى النزاع – تفسير تفسيراً نسبياً وأنه يقصد بها المسائل التى وان كانت تهم أكثر من دولة واحدة الا أن قواعد القانون الدولى العام لا تنظمها، وانه لذلك يتوقف اعتبار مسألة ما ضمن الاختصاص المطلق لدولة من الدول على مدى تطور العلاقات الدولية .

الاختصاص الداخلى فى ميثاق الأمم المتحدة :

تنص المادة 2 فقرة 7من ميثاق الأمم المتحدة على أنه " ليس فى هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل فى الشئون التى تعد من صميم الاختصاص الداخلى لدولة ما، وليس فيه ما يقتضى الأعضاء أن يعرضوا هذه المسائل لكى تحل بحكم هذا الميثاق، على أن هذا المبدأ لا يخل بتطبيق تدابير القمع الواردة فى الفصل السابع " .

ويلوح من مقارنة هذا النص مع نص المادة 15فقرة 8من عهد عصبة الأمم ثلاثة أمور

1- ان ميثاق الأمم المتحدة يستعمل اصطلاحاً جديداً فهو لم يتحدث عن اختصاص مطلق بل عن مسائل تتعلق بصميم الاختصاص الداخلى للدولة .

2- كان نص عصبة الأمم خاصا بدفع يبدى بمناسبة نزاع معروض على مجلس العصبة فى حين أن النص الجديد أكثر عمومية, ويمكن تفسيره على أنه يجيز التمسك بكون المسألة تتعلق بصميم الاختصاص الداخلى للدولة لمنع أى تدخل من جانب الأمم المتحدة مهما كان مصدر التدخل أو طريقته, ولو لم يكن الامر متعلقا بنزاع معروض على مجلس الامن أو الجمعية العامة .

3- أتى ميثاق الأمم المتحدة بقيد هام على استعمال الدفع المسألة بصميم الاختصاص الداخلى للدولة اذ تنص المادة 2/7 على أن هذا الدفع لا يخل بتطبيق تدابير القمع الواردة فى الباب السابع من الميثاق, والتى يباشرها مجلس الأمن فى حالات الاخلال بالسلم أو وقوع العدوان .

4- زادت الصعوبات المتعلقة بتفسير المادة الثانية فقرة 7 من ميثاق الامم المتحدة, نتيجة لما ورد فى الفصلين السابع والثامن من الميثاق خاصا بوظائف الأمم المتحدة فى الميدان الاقتصادى والاجتماعى, وما ورد فى الفصل الحادى عشر من الميثاق من نصوص تتعلق بالاقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتى ( المستعمرات) وبالالتزامات المتعلقة بادارة هذه الأقاليم .

فقد نصت المادة الخامسة والخمسون على ان تعمل الامم المتحدة على تحقيق ما يأتى :

(أ‌)          تحقيق مستوى أعلى للمعيشة وتوفير أسليب الاستخدام المتصل لكل فرد والنهوض بعوامل التطور والتقدم الاقتصادى والاجتماعى .

(ب‌)     تيسير الحلول للمشاكل الدولية الاقتصادية والاجتماعية والصحية وما يتصل بها, وتعزيز التعاون الدولى فى أمور الثقافة والتعليم .

(جـ) أن يشيع فى العالم احترام حقوق الانسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين , ولا تفريق بين الرجال والنساء ومراعاة تلك الحقوق والحريات .

كما نصت المادة الثانية والستون على أن يقوم المجلس الاقتصادى والاجتماعى بدراسات ويضع تقارير عن المسائل الدولية فى أمور الاقتصاد والاجتماع والثقافة والتعليم والصحة وما يتصل بها كما أن له أن يوجه مثل هذه الدراسات إلى وضع مثل هذه التقارير، وله أن يقدم توصيات فى أيةمسألة من تلك المسائل إلى الجمعية العامة وإلى أعضاء الأمم المتحدة وإلى الوكالات المختصة ذات الشأن . كما يقدم المجلس توصيات فيما يختص باحترام حقوق الانسان والحريات الاساسية .

كما قررت المادة 73 أن أعضاء الأمم المتحدة الذين يضطلعون بادارة أقاليم لم تنل شعوبها قسطاً كاملاً من الحكم الذاتى يعترفون بالمبدأ الذى يقضى بأن مصالح سكان هذه الاقاليم لها المقام الأول، كما حدوت المادة 74 الغرض من مباشرة السلطة على المستعمرات.

ويبدو جلياً أنه من اللازم لمباشرة الأمم المتحدة للوظائف الواردة فيما تقدم أن تتدخل فى شئون جرت العادة فى الماضى على اعتبارها من صميم الاختصاص الداخلى للدولة، مما يؤكد أن نطاق الاختصاص الداخلى لكل دولة يتوقف على مدى نمو القانون الدولى، وعلى نطاق الالتزامات الدولية التى تتحملها .

لقد أثيرت مشكلة الاختصاص الداخلى أمام محكمة العدل الدولية فى قضية البترول الايرانى، كما بحثتها الأجهزة السياسية للأمم المتحدة .

1- قضية شركة البترول الانجليزية الايرانية :

فى 29أبريل سنة 1933 أبرم اتفاق بين الحكومة الايرانية وبين شركة البترول الانجليزية الايرانية – وهى شركة مسجلة فى المملكة المتحدة – موضوعه استغلال الشركة المذكورة للبترول الايرانى .

وفى مارس سنة 1951 وافق مجلس النواب الايرانى ومجلس الشيوخ على قانون بتأميم صناعة البترول فى اريران . كما صدر قانون آخر فى 15 ابريل سنة 1951 يتضمن اجراءات تنفيذ قانون التأميم .

ونشأ عن تنفيذ القانون خلاف بين الحكومة الايرانية وشركة البترول الانجليزية الايرانية . وقد تولت الحكومة الانجليزية الدفاع عن مصالح الشركة الانجليزية بناء على حقها فى الحماية الدبلوماسية. ولجأت الحكومة الانجليزية فى 26مايو سنة 1951 إلى عرض هذا النزاع على محكمة العدل الدولية . يبد أن ايران دفعت بعدم اختصاص المحكمة لعدة أسباب من بينها أن هذا النزاع لا يدخل فى دائرة النازعات التى قبلت فيها ايران الولاية الالزامية لمحكمة العدل الدولية بمقتضى التصريح الذى صدقت عليه ايران فى 19 سبتمبر سنة1932 . فضلاً عن أنه يتعلق بمسألة تدخل فى نطاق سلطان ايران الداخلى .

وقد أصدرت المحكمة – قبل أن تبت فى مسألة اختصاصها – قراراً فى 5يونيو سنة 1951يتضمن اجراءات وقتية الغرض منها بقاء الأموء على ماهى عليه ومنع طرفى النزاع من اتيان أى عمل يؤدى إلى وقف الاستغلال أو إلى تفاقم النزاع .

ولقد عادت محكمة العدل الدولية فأصدرت فى 22يولية سنة 1952 حكماً بعدم اختصاصها بنظر النزاع . وبنت هذا الحكم على أن ولاية المحكمة الالزامية مبناها التصريحات التى صدرت من كل من ايران والمملكة المتحدة بقبول هذه الولاية، وأن قبول ايران لاختصاص المحكمة الالزامى قاصر على المنازعات التى تتعلق بتنفيذ معاهدة أو اتفاقية دولية تعقدها ايران بعد تاريخ التصريح؛ ومن ثم فلا اختصاص للمحكمة بالنسبة للنزاع الايرانى الانجليزى الذى لم ينشأ عن تنفيذ معاهدة عقدت بين الدولتين بعد تاريخ التصريح؛ لان الاتفاق الذى عقد فى 1923 بين الحكومة الايرانية وبين الشركة الانجليزية لا يمكن اعتبارة معاهدة دولية .  

ولم تجد المحكمة حاجة لبحث الدفع الخاص بتعلق مسألة التأميم بصميم الاختصاص الداخلى الايرانى :

2- تفسير المادة2فقرة 7أمام الفروع السياسية للأمم المتحدة :

يدل عرف الأمم المتحدة منذ قيامها على انكماش كبير للموضوعات التى تتصل بالاختصاص الداخلى للدول الاعضاء . فالثابت أن الأمم المتحدة قد أكدت اختصاصها فى مناقشة المسائل التى تدخل فى حدود ميثاقها, ولقد جرت عادة الجمعية العامة ومجلس الأمن على استبعاد الدفع بتعلق المسألة بصميم الاختصاص الداخلى للدولة كلما تعلق الامر بمباشرة أى من الاختصاصات الممنوحة لها فى الميثاق وذلك حتى فى غير أحوال الاخلال بالسلم الدولى .

فقد ناقشت الجمعية الأمم المتحدة فى عديد من دوراتها مسائل كتلك التى تتعلق بنظام الحكم فى اسبانيا, وباستيلاء الحزب الشيوعى على الحكم فى تشيكوسلوفاكيا, وبالتمييز العنصرى فى جنوب افريقيا, وبوضع تونس ومراكش حينما كانتا تحت الحماية الفرنسية . كما قد أدرجت الجمعية العامة فى جدول أعمالها فى دورتها العاشرة عام 1955 مسألة الجزائر رغم ادعاء فرنسا بأن نصوص الدستور الفرنسى كانت تجعل من الجزائر جزءا من الاقاليم الفرنسى . وأدرجت الجمعية العامة فى سنة 1956 فى جدول أعمالها مشكلة المجر رغم ما قررته الحكومة المجرية من أن الثورة المجرية مسألة داخلية . كما بحثت الجمعية العامة ابتداء من سنة 1960 الاوضاع الداخلية فى الكونجو, وفى أنجولا وفى موزمبيق وفى غينيا بيساو وفى روديسيا وفى ناميبيا وفى قبرص .

ونصت المادة 13 من اعلان حقوق الدول وواجباتها الذى أقرته لجنة القانون الدولى التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة فى 9 يوليو سنة 1949 على أنه لا يجوز للدولة أن تستند على دستورها أو تشريعها الداخلى لكى تتحلل من الالتزامات المفروضة عليها بموجب المعاهدة أو مصادر القانون الدولى الأخرى .

وكذلك بحث مجلس الامن فى دوراته المتعاقبة مشكلة التمييز العنصرى فى جنوب افريقيا, كما بحث منذ سنة 1960 الأوضاع الداخلية فى الكونجو, وأنجولا وموزمبيق وغينيا بساو وروديسيا وناميبيا وقبرص . 

ولقد سببت ممارسة الأمم المتحدة لاختصاصها فى هذه الميادين فزعا لكثير من الدول التى تخشى رقابة الامم المتحدة على تصرفاتها الداخلية .

 

تطبيق قواعد القانون الدولى فى داخل الدولة :

سوف نبحث فيما يلى الحلول التى أخذت بها الدول المختلفة بالنسبة لتطبيق العرف الدولى والمعاهدات فى داخل اقليمها .

وهذه مشكلة عامة جرت عادة الشراح على التعبير عنها باصطلاح استقبال القانون الداخلى للقانون الدولى .

 

تطبيق العرف الدولى فى اقليم الدولة :

تحترم انجلترا قاعدة قديمة مقتضاها أن " العرف الدولى جزء من القانون الانجليزى" . وهكذا فكما تلتزم المحاكم الانجليزية بتطبيق القانون الانجليزى, فهى تلتزم أيضا بتطبيق العرف الدولى. ولا يعتبر العرف الدولى من قبيل القانون الأجنبى الذى يجب اثباته بل تلتزم المحاكم بتطبيقه من تلقاء نفسها .

ولقد احترمت هذه القاعدة الولايات المتحدة الأمريكية ودول الكومنولث البريطانى, كما أخذت بها محاكم كثير من الدول ذات الانظمة اللاتينية, فقامت المحاكم الفرنسية مثلا, بتطبيق العرف الدولى . فقد طبقت محكمة النقض الفرنسية مثلا القاعدة الخاصة ببطلان المعاهدات اذا نشبت حرب بين أطرافها, وكان ذلك بمناسبة قضية عرضت عليها بعد الحرب العالمية الأخيرة واستند فيها إلى معاهدة كانت مبرمة بين ايطاليا وفرنسا . ورفضت المحكمة تطبيق تلك المعاهدات قائلة أن العرف الدولى يقرر بطلان تلك المعاهدات نتيجة لنشوب حالة الحرب بين ايطاليا وفرنسا سنة 1940, كما اعترفت المحاكم الايطالية والدستورية الايطالى بنفس القاعدة . وأخذ بها دستور ألمانيا الاتحادية 1949 الذى نص كذلك على أن لقواعد القانون الدولى الاولوية على قواعد القانون الداخلى , ومنح الدستور القاضى الوطنى سلطة الامتناع عن تطبيق القوانين الداخلية المخالفة للقانون الدولى .

ويمكن القول ان العرف الدولى يطبق عادة فى الدول المختلفة كجزء من القانون الوطنى .

ولقد طبقت المحاكم المصرية العرف الدولى, كما طبق مجلس الغنائم المصرى العرف الدولى  بصورة مطردة, بل ورفض تطبيق أوامر الحاكم العسكرى المخالفة .   

ولقد نص القانون رقم 22 سنة 1950 الخاص بانشاء مجلس الغنائم المصرى على أن يطبق المجلس فى دعاوى الغنائم قواعد القانون الدولى العام وهذا طبعا بدون تمييز بين ما اذا كان مصدرها معاهدة أو عرفا . 

 

تطبيق المعاهدات الدولية فى اقليم الدولة :

يحتوى التشريع الوطنى عادة على نصوص تحدد كيفية وشروط تطبيق المعاهدات فى اقليم الدولة .

ويثور البحث حول اذا كان يشترط لكى تصبح المعاهدة نافذة فى داخل الدولة وملزمة للسلطات الوطنية والرعايا أن يصدر بها قانون داخلى , أم أنه يكفى لسريان المعاهدة فى اقليم الدولة أن يكون قد تم ابرامها بطريقة سليمة روعيت فيها كافة الأوضاع التى يتطلبها القانون الدولى, فضلا عن الاوضاع التى يتطلبها دستور الدولة ؟

ولقد سبق أن عرضنا للخلافات الفقهية فى هذا الشأن وذكرنا أن أنصار مذهب ثنائية القانون يشترطون لنفاذ المعاهدة فى الداخل أن تصدر على هيئة تشريع داخلى, أما أنصار مذهب الوحدة فيقررون أن المعاهدة الصحيحة النافذة التى تم ابرامها بطريقة سليمة وفقا لأحكام القانون الدولى ولأحكام القانون الداخلى تسرى فى الميدان الداخلى دون حاجة لاصدارها على هيئة تشريع . وسنعرض فيما يلى للحلول التى تأخذ بها الدول المختلفة .

 

(أ‌)          الولايات المتحدة :

تنص المادة السادسة من الدستور الأمريكى على أن " الدستور والقوانين الصادرة طبيقا له, وجميع المعاهدات التى أبرمتها أو ستبرمها الولايات المتحدة تعتبر القانون الأعلى لهذه الدولة " . ومعنى هذا أن المعاهدات المصدق عليها تكون لها قوة القانون بحيث تعدل أو تلغى التشريعات السابقة عليها اذا ما تعارضت نمعها .

ويخلص من هذا المعاهدات التى تصدق عليها الولايات المتحدة تعتبر تلقائيا جزءا من النظام القانونى للولايات المتحدة .

 

(ب‌)     المملكة المتحدة :

يتولى الملك وفقا للقانون الدستورى الانجليزى التصديق على المعاهدات .

ولقد استقر العرف فى تلك البلاد على أنه كانت المعاهدة تمس الحقوق الخاصة بالأفراد, أو كانت تحتوى على نصوص تخالف التشريع الانجليزى, فانه من اللازم فى مثل هذه الاحوال أن يوافق البرلمان على نصوص المعاهدة قبل التصديق عليها, وتصدر الموافقة على صورة قانون أو قرار يبيح تعديل التشريع بما يتفق مع نصوص المعاهدة .

ومعنى هذا أنه خلافا للوضع المقرر فى الولايات المتحدة, لا تعتبر المعاهدات جزءا من النظام القانونى, ولا تلغى المعاهدات بمجرد ابرامها القوانين المخالفة لها .

 

(جـ) فرنسا :

تقرر المادة 58من الدستور الفرنسيى سنة 1958 أن المعاهدات والاتفاقات المصدق عليها بصفة قانونية والمنشورة تكون لها قوة أعلى من القانون, بشرط أن يقوم الطرف الآخر بتطبيق المعاهدات أو الاتفاق . والتصديق على المعاهدات, يختص به رئيس الجمهورية, ولكن يشترط الدستور فى كثير من الاحوال موافقة البرلمان على المعاهدة قبل التصديق عليها . وعندما تنتهى اجراءات التصديق على المعاهدة ويتم نشرها فى فرنسا, فان ما يخالف نصوص تلك المعاهدة من قرانين فرنسية يلغى او يعدل بطريقة ضمنية .

ويلتزم القاضى الفرنسى بالتأكيد من احترام طرف المعاهدة الآخر لاحكامها .

 

( د ) ايطاليا :

نصت المادة العاشرة من الدستور الايطالى 1948 عن أن " النظام القانونى الايطالى يخضع لقواعد القانون الدولى المعترف بها بصفة عامة " . ويترتب على هذا النص ادماج قواعد القانون الدولى المقبولة من ايطاليا ضمن قواعد النظام القانونى الايطالى . ولقد اختلفت الآراء فى ايطاليا حول تفسير نص المادة العاشرة بالنسبة للنفاذ الداخلى للمعاهدات . فقد قررت محكمة النقض الايطالية فى سنة 1950 أن المادة 10 لم تغير الوضع الذى كان سائدا قبل سنة 1948 والذى كان يشترط لنفاذ المعاهدة اصدارها على هيئة تشريع داخلى . على أن الرأى الراجح فى الفقة الايطالى يذهب إلى أن المعاهدات يجب أن تعتبر بعد ابرامها جزءا من النظام القانونى الايطالى, لأن قاعدة أن العقد شريعة المتعاقدين تعتبر من قواعد القانون الدولى المعترف بها بصفة عامة . 

 

(هـ) ألمانيا الاتحادية :

تنص المادة 57 من دستور ألمانيا الاتحادية 1949 على أن الاتفاقيات الدولية التى تكون بطبيعتها ووفقا للغرض منها واجبة الاندماج فى القانون الداخلى تكون نافذة من تاريخ موافقة البرلمان عليها. ويلاحظ أن المادة 25 من الدستور المذكور جعلت لقواعد القانون الدولى الاولوية على قواعد القانون الداخلى .

 

(ز) الاتحاد السوفيتى ودول أوربا الشرقية : 

يأخذ الاتحاد السوفيتى ودول اوربا الشرقية بقاعدة مقتضاها أن معاهدة التى تم التصديق عليها تنشئ التزامات مباشرة على الدول الأطراف فيها ولا تلزم المعاهدة الافراد فى داخل الدولة بما فيهم الموظفين الوطنيون .

على أنه من المقرر فى الاتحاد السوفيتى وفى دول أوربا الشرقية أن المعاهدة تنفذ فى الداخل إذا ما تم نشرها بموجب قرار من السلطة التنفيذية، ويكون لها من القوة التنفيذية بقدرما للقرار الذى أمر بنشرها .

ولقد قام البحث حول الحكم فى حالة وجود تعارض بين معاهدة منشورة وبين أحكام القانون الداخلى . ولقد قرر بعض العلماء أن مثل هذا التعارض غير متصور فى الانظمة الاشتراكية لوجود سلطة سياسية واحدة تضع القانون الداخلى وتقبل الالتزامات الدولية . ويسلم آخرون بامكانية وجود التعارض، وان اختلفوا فيها بينهم حول طريقة حل هذا التعارض . فلقد رأى البعض ضرورة احترام القانون الداخلى مع تحمل الدولة المسئولية الدولية، وقرر البعض الآخر وجوب احترام القاعدة القانونية اللاحقة فى الترتيب الزمنى سواء أكانت مقررة فى معاهدة منشور أم فى التشريع .

تطبيق المعاهدات فى مصر :

نصت المادة 151 من دستور جمهورية مصر العربية الصادر فى 11 سبتمبر سنة 1971 على أن " رئيس الجمهورية يبرم المعاهدات ويبلغها مجلس الشعب مشفوعة بما يناسب البيان، وتكون لها قوة القانون بعد ابرامها والتصديق عليها ونشرها وفقاً للأوضاع المقررة، على أن معاهدات الصلح والتحالف والتجارة والملاحة وجميع المعاهدات التى يترتب عليها تعديل فى أراضى الدولة، أو التى تتعلق بحقوق السيادة أو التى تحمل خزانة الدولة شيئاً من النفقات غير الواردة فى الميزانية تجب موافقة مجلس الشعب عليها " .

ولا يحتوى الدستور المصرى على نصوص عامة تنظم العلاقة بين القانون الدولى وبين النظام القانونى المصرى، وانما حدد فقط طريقة ابرام المعاهدات ونفاذها .

ولكى توضح شروط نفاذ المعاهدات فى مصر نميز بين نوعين منها :

( أ ) المعاهدات قليلة الأهمية – وهى غير المعاهدات المنصوص عليها فى المادة 151 من الدستور . وهذه تسرى فى مصر إذا ما تم التصديق عليها بواسطة رئيس الجمهورية ونشرت فى الجريدة الرسمية .

ولم يشترط الدستور بالنسبة لهذه المعاهدات اصدارها على هيئة قانون واكتفى بتطلب نشرها بعد التصديق عليها حتى يتم علم الكافة بها .

 ( ب ) المعاهدات الهامة – وهى التى ورد عليها النص على سبيل الحصر فى المادة 151، وهذه لا تنفذ فى مصر الا بموجب عمل مشترك من رئيس الجمهورية ومجلس الشعب . فيجب أن يوافق عليها مجلس الشعب وأن يصدق عليها رئيس الجمهورية، هذا فضلاً عن نشرها فى الجريدة الرسمية .

ويقوم رئيس جمهورية مصر العربية بالتصديق على المعاهدات، ويتم النشر بقرار من وزير الخارجية .

ولقد استقر القضاء المصرى على تطبيق أحكام المعاهدات الدولية متى استوفت شروط نفاذها على اعتبار أن لها قوة القانون .

ففى حكم صدر من محكمة النقض المصرية فى 15/6/1956 طبقت المحكمة معاهدة دولية هى الاتفاق الخاص بمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، ورأت المحكمة فى حكم آخر صدر فى 8/3/1956 " أنه لما كان الوفاق المعقود بين حكومتى مصر والسودان قد صدق عليه مجلس النظام نشر فى الوقائع كما نشربمجموعة القوانين والقرارات المصرية فانه يكون قانوناً من قوانين الدولة . وقضت محكمة استئناف القاهرة بتاريخ 21/5/1957 أن أحكام معاهدة فارسوفيا سنة 1929 المتعلقة بالمسئولية عن النقل الجوى الدولى لا تسرى فى مصر الا من تاريخ أنضمام مصر إليها بموجب القانون رقم 593 لسنة 1955 .

حالة اصدار تشريع مخالف لاحكام معاهدة دولية :

من المتصور أن يصدر المشرع الوطنى تشريعاً يخالف به نصوص معاهدة سارية فهل تلتزم المحاكم بتطبيق نصوص تشريعها الوطنى أم تعطى الأولوية لنصوص المعاهدة؟

استقر العرف الدستورى فى دول كثيرة على اعطاء المعاهدة السارية قوة القانون فقط فى داخل الدولة، وعلى تطبيق أحكام القوانين الوطنية إذا كانت لاحقة للمعاهدة ومخالفة لها. ويضيف الفقهاء أن فى أصدار تشريع لاحق لمعاهدة ومخالف لها ما يستظهرمنه ارادة المشرع الوطنى فى التحلل من أحكام تلك المعاهدة وعدم التقيد بها .

ومع ذلك بدأت بعض الدساتير الحديثة تنص صراحة على أولوية تطبيق المعاهدات الدولية على التشريع الوطنى، وتعطى بذلك للمعاهدة قوة أعلى من قوة القانون الوطنى . ومن هذا القبيل المادة55 من الدستور الفرنسى 1958 التى تنص صراحة على أن المعاهدات الدبلوماسية المصدق عليها قانوناً والمنشورة لها أعلى من قوة القوانين الداخلية بشرط احترامها بواسطة الطرف الآخر .

أما بالنسبة للوضع فى مصر فمن الواضح أن المادة 151 من دستور 1971 لم تنص على أولوية المعاهدات على القوانين المصرية، بل جعلت للمعاهدات المصدق عليه والمنشورة فى مصر قوة القانون فقط . وعلى القاضى المصرى أن يبدأ بمحاولة التوفيق بين أحكام القانون اللآحق على معاهدة وبين أحكام تلك المعاهدة إذا ما وجد تعارضاً بينهما، وإذا استحال التوفيق وطبق القاضى التشريع المصرى المخالف للمعاهدة تحملت مصر المسئولية الدولية .

تطبيق القانون الوطنى بواسطة المحاكم الدولية :

تثور هذه المشكلة فى العمل إذا كان دستور دولة ما أو تشريعها يخالف قواعد القانون الدولى العام، واحتجت به الدولة أمام القضاء الدولى لتبرير مسلك اتخذته.

والقاعدة هنا أن المحاكم الدولية لا تلتزم بالتشريع الوطنى . ولقد أقرت ذلك محكمة العدل الدولية فى قضية المصايد بين النرويج والملكة المتحدة سنة 1951. فقررت أن تحديد المساحات البحرية أمر له صفة دولية، ولايمكن أن يترك للارادة المطلقة لكل دولة كما تظهر فى تشريعاتها .

على أنه من المقرر أن التشريعات الوطنية للدول المختلفة وكذلك المبائ القانونية المستقرة أمام المحاكم الوطنية – تساهم فى الكشف عن قواعد العرف الدولى، وفى معرفة مبادئ القانون العامة التى تأخذ بها الدول المتمدنة .

=======================================================

  

 

 

 

 

 

الوجيز في القانون الدولي

 

 

الجزء الاول


Text Box: القانون الدولى العام
 

 


تمهيد :-

       القانون الداخلى والقانون الدولى :-

ينقسم القانون إلى فرعين رئيسين وهما القانون الداخلى والقانون الدولى

ويقصد بالقانون الداخلى مجموعة القواعد القانونية التى تنظم المجتمع الوطنى وهذه القواعد تحمى المصالح المباشرة لدولة معينة، وتعبر عن ارادة تلك الدولة فى المجال القانونى الداخلى، ويشتمل القانون الداخلى على فروع متعددة يتولى بعضها تنظيم العلاقات الخاصة بين الافراد كقواعد القانون المدنى أو التجارى، ويتولى البعض الآخر تنظيم السلطات العامة الوطنية وعلاقة الأفراد بتلك السلطات كقواعد القانون الدستورى والادارى

أما القانون الدولى فهو يحتوى على القواعد القانونية التى تنظم المجتمع الدولى، وهذه القواعد تحمى المصالح المشتركة للدول وتنظم علاقاتها فيما بينها ومع المنظمات الدولية. ومن الواضح أن القانون الدولى العام لايعبر عن ارادة دولة واحدة بل اتفاق صريح أو ضمنى تم تم بين الدول .

ومن الممكن التميز بين فرعين من فروع القانون الدولى وهما :

( أ ) القانون الدولى العام : وهو يحتوى على القواعد والمبادئ القانونية التى تحكم حقوق والتزامات الدول فى علاقاتها المتبادلة .

( ب ) قانون التنظيم الدولى : وهو يبين طريقة أنشاء المنظمات الدولية، ويحدد أنواعها، ويحكم نشاطها وينظم علاقاتها بالدول الأعضاء وبغيرها من الدول، ويحدد علاقات المنظمات الدولية فيما بينها .

وقواعد التنظيم الدولى حديثة نسبياً حيث أن المنظمات الدولية لم تظهر فى المجتمع الدولى بصورة فعالة ومحسوسة الا منذ الحرب العالمية الأولى ،

ومع عدم قدم العهد بقواعد التنظيم الدولى نجد أنها تأكدت وازدادت أهميتها بعد الحرب العالمية الثانية، فقد استقر العرف الدولى على أن هناك قواعد قانونية تحكم تأسيس ونشاط المنظمات الدولية، وعلى أن تلك القواعد تدخل فى نطاق القانون الدولى .

ومن الملاحظ أننا إذا استعملنا اصطلاح القانون الدولى على اطلاقه، تحدد المعنى بالقانون الدولى العام وبقانون التظيم الدولى . وبهذا نستبعد القانون الدولى الخاص وهو ذلك الفرع من القانون الداخلى الذى يحدد القواعد الخاصة بالجنسية، كما يحدد القانون الواجب التطبيق والمحاكم المختصة فى العلاقات القانونية الخاصة التى يوجد فيها عنصر أجنبى كعلاقة زواج بين وطنى وأجنبية وكعقد بيع بين أفراد مختلفى الجنسية .

وهذه العلاقات التى تتم بين الأفراد لا تتصل مباشرة بالعلاقات بين الدول ذات السيادة، ولكن هذا لا ينفى وجود بعض الالتزامات .

وسوف يقتصر مؤلفى هذا على قواعد القانون الدولى العام، أما قانون التظيم الدولى فقد عالجته فى مؤلف مستقل .

 

                                       الباب الأول

                          المجتمع الدولى والقانون الدولى

نشأت قواعد القانون الدولى نتيجة لاشتراك شعوب العالم فى تكوين مايسمى بالمجتمع الدولى . ولقد تأثرت تلك القواعد فى مبادئها وصنعتها بظروف المجتمع الدولى واحتياجاته . ومن المفيد لكى نحدد طبيعة القانون الدولى العام، أن نعطى فكرة واضحة عن المجتمع الدولى .

ولما كان المجتمع الدولى – شأنه فى ذلك شأن المجتمعات الوطنية – نوع من المجتمعات السياسية، فيجب علينا أن نحدد أولا ما هية المجتمع السياسى، تمهيداً لمعرفة المجتمع الدولى وللمقارنة بينه وبين المجتمع الوطنى .

 

                                 **الفصـــل الأول**

تكونت المجتمعات السياسية منذ قديم الزمان نتيجة لاستقرار جماعات من البشر فى أقليم معين، وخضوع كل جماعة لنظام قانونى ولسلطة عليا .

ويتميز المجتمع السياسى عن غيرة من التجمعات الانسانية بنشوء سلطة متميزة فى داخل المجتمع تتولى المحافظة على رابطة التضامن بين أعضائه عن طريق وضع قواعد قانونية والزام الأفراد باتباع هذه القواعد بما تملكه من وسائل القهر والجبر. والصورة التقليدية للمجتمع السياسى هى الدولة، ويضاف إلى الدولة المجتمع الدولى، فقد توافرت فيه عناصر المجتمع السياسى .

 

                                 ** البحث الأول **

                              عناصر المجتمع السياسى

ومن اللازم لكى يتحول مجتمع انسانى إلى مجتمع سياسى توافر ثلاثة عناصر جوهرية وهى :

 ( 1 ) التضامن الأجتماعى :-

       يتكون كل مجتمع سياسى من أفراد ، أو مجموعات من الأفراد تجمعهم رابطة التضامن الاجتماعى ، وهذه الرابطة هى التى تدفعهم إلى المعيشة المشتركة، وتجمل لهم أهداف موحدة وروح جماعية تظهر بصفة خاصة فى وقت الأزمات . ويعمل التضامن بين أفراد المجتمع السياسى بطريقتين :

  ( أ ) طريقة آلية ( التضامن للتشابه ): يجمع التشابه الجنسى والتاريخى والعنوي بين الأفراد، وتقوى هذه الصلة وتشتد كلما صغر المحيط الاجتماعى، وتضعف تدريجياً كلما ازداد المجتمع اتساعا .

 ( ب ) طريقة موضوعية ( التضامن لتقسيم العمل ) : يرتبط أفراد المجتمع بصلة أخرى تختلف عن الأولى فى بعدها عن العاطفة، وتأسيسها على قواعد ذات طابع اقتصادى، وتستلزم هذه الصلة تقسيم العمل فى داخل الجماعة، والتخصص فى الأنتاج وقيام المعاملات والمبادلات بين الأفراد .

ومن الثابت أن رابطة التضامن الاجتماعى حينما تكون قوية فأن ذلك يؤدى إلى تماسك المجتمع واستمرار تطوره فى كافة المجالات .

  2- النظان القانونى :

       لا يكون التعامل بين أفراد المجتمع ممكناً إلا إذا وجدت قواعد ملزمة الغرض منها نشاط المجتمع وتوجيهة إلى ما فيه الخير العام .

فالنظام القانونى للمجتمع السياسى عبارة عن مجموعة القواعد التى تنظم سلوك أعضاء المجتمع، وتحدد المبادئ والاهداف التى يسعى المجتمع إلى تحقيقها وطرق الوصول إليها

ولقد بلغ النظام القانونى الوطنى درجة كبيرة من الفاعلية بحيث أصبح يتميز بأمرين: إولهما أنه نظام تفرضة سلطة عليا مختصة، وثانيهما أنه نظام دقيق كامل يحتوى على قواعد تحكم مختلف أنواع العلاقات القانونية بصورة تخدم مصالح المجتمع كما تمضمن حقوق الأنسان .

3 – السلطات :

       لاتكفى العناصر السابقة لاستكمال التكوين القانونى للمجتمع السياسى، فالتطوير التاريخى يؤكد ضرورة ظهور سلطات عليا وظيفتها الاشراف على سير المجتمع بطريقة منظمة ودائمة .

وتمارس هذه السلطات ثلاثة أنواع من الوظائف على النحو التالى :

( أ ) سلطات مشرعة : ونعنى بها هيئات وظيفتها وضع القواعد التى تنظم اختصاصات الأفراد، وتحكم كيفية سير الجماعة ومدى نشاطها، كالبرلمانات الوطنية أو المجالس التشريعية المحلية .

( [ ) سلطات قضائية : وهى هيئات وظيفتها التحقق من التوافق بين القواعد القانونية الموضوعة لحكم الجماعة وبين مدى وكيفية تطبيقها بواسطة الأفراد والجماعات . ومن أمثلة هذه الهيئات مجلس الدولة أو المحاكم القضائية العادية. والقضاء كقاعدة عامة لا يضيف جديدأ للنظام القانونى، وانما تقتصر مهمته على الفصل مدى احترام هذا النظام وفى النتائج التى تترتب على الاخلال به .

( جـ ) سلطات منفذة : ومهمتها المطابقة بين القواعد القانونية وتصرفات الأفراد والجماعلت بما يحقق للنظام القانونى نفاذه واحترامه الذى بدونه يفقد صفته كقانون ويصبح مجرد مثل ومبادئ تقترب من الفضائل والأخلاق . وتقوم هذه السلطات بتطبيق الجزاءات على من يخالف النظام القانونى .

وتتميز المجتمعات الوطنية بوجود هذه السلطات بأنها على درجة كبيرة من القوة والكفاءة.

ولقد تطورت المجتمعات السياسية تطورا طويلاً متصلاً إلى أن اتخذت شكل الدول المستقلة وأصبح سكان العالم موزعين فى الوقت الحالى على 149 دولة تستقر كل منها فى اقليم محدد وتخضع لسلطة حاكمة تتولى تنظيم شئونها .

وما تاريخ العالم الا تاريخ التطور الذى لم ينقطع لهذه المجتمعات الوطنية، نتيجة لما يملكه كل منها من قوة اقتصادية ومعنوية ولما يقوم به من استخدام لطاقاته البشرية واستغلال لثرواته المادية فى ظل أهداف وأنظمة متغيرة .

 

                                       ** المبحث الثانى **

                            عناصر المجتمع الدولى وخصائصة

 نظرة تاريخية :-

       لا تعتبر الدولة المرحلة الأخيرة فى ميدان التنظيم السياسى، فالتطور يشير إلى انتماء بنى الانسان إلى مجتمع سياسى أوسع نطاقاً من الدولة .

فمنذ القرن السادس عشر ظهرت الدولة الأوربية الحديثة فى أعقاب انهيار النظام الاقطاعى، وأحست هذه الدول أنه من اللزم أن تعترف كل دولة بوجود الدول الأخرى وبسيادتها وأن تقبل التعامل معها وفقاً لقواعد قانونية تتفق عليها . ولهذا قبلت هذه الدول الانتماء إلى ما عرف منذ مؤتمر وسنفاليا سنة 1648 باسم العائلة الدولية . ولقد كانت هذه العائلة قاصرة فى الأمر على دول غرب أوربا ثم انضمت إليها سائر الدول الاوربية المسيحية ثم شمات الدول المسيحية غير الاوربية وبصفة خاصة الدول التى استلقت فى القارتين الأمريكتين . وكانت تركيا أول دولة أسلامية تنضم للعائلة سنة 1856 . وانضمت الصين وهى دولة بوذية سنة 1844 وكذلك اليابان سنة 1853. وبعد انشاء عصبة الأمم فى سنة 1919 أصبحت العائلة الدولية تعرف باسم المجتمع الدولى الذى انضم إليه عدد محدود من الدول الافريقية والآسيوية مثل ايران ومصر والحبشة .

ولقد تغير تشكيل المجتمع الدولى تغيراً جوهرياً بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة لتحرير الشعوب الآسيوية والافريقية لانضمامها إلى المجتمع الدولى كدول مستقلة ذات سيادة .

وأصبح المجتمع الدولى فى الوقت الحالى مفتوحاً لكل الشعوب التى تنال استقلالها بغض النظر عن موقعها الجغرافى وبدون تفرقة بين الأجناس أو الاديان أو الحضارات . وقد كان لذلك أثره الواضح على القواعد التى تحكم العلاقات فيما بين الدول والتى نشأت أصلاً تعبيراً عن ارادة الدولة الأوربية وحماية لمصالحها .

خاصة حينما تبنت الدول الآسيوية و الافريقية ومن بينها الدول العربية والاسلامية مجموعة من المطالبات بقصد ادخال تغيير فى نظام المجتمع الدولى والمبادئ التى تحكمة حماية لحقوقها ومصالحها وتأكيداً لمساهمتها الحضارية والثقافية فى بناء النظام الدولى بألاسلوب الذى يحرره من تأثير حضارة قارة بعينها أو مصالح مجموعة من الدول الكبرى.

وكان لهذه المطالبات أثرها الواضح فى تقرير القواعد الخاصة لتصفية الاستعمار، وبتاكيد سيادة كل دولة على مواردها الطبيعية، وبكفالة حق الشعوب فى تقرير مصيرها، وبتقرير المساواة بين الشعوب وبين بنى الانسان بغض النظر عن اللون أو الاصل أو الثقافة أو العقيدة .

ومن الثابت أن المجتمع الدولى المعاصر قد استكمل كل عناصر المجتمع السياسى وأن كانت له سمات وخصائص تميزه عن المجتمع الوطنى وذلك على النحو الآتى :

1-   التضامن الدولى :

من المشاهد أن رابطة التضامن بين الشعوب المبينة على وحدة الطبيعة الانسانية تقوى يوما بعد يوم, وتنشىء علاقات بين أفراد تابيعين لأكثر من دولة, فضلا عن العلاقات التى تنشأ بين الدولة ذاتها . ولقد ساعدت على ذلك الثورة العلمية والتكنولوجية التى أدت إلى تحسين وسائل الاتصال بين الشعوب من بواخر وسكك حديدية وطيارات وصواريخ وأقمار صناعية وصحف ومؤلفات مختلفة واذاعة وتليفزيون ولاسلكى وغيرها . وفضلا عن ذلك فالعلم والثقافة والفنون والآداب لا تعترف بالحدود الوطنية وتؤدى إلى التقارب الثقافى والمعنوى بين الشعوب العالم وإلى إيجاد تراث أنسانى مشترك يشتمل على الانجازات العلمية والفنية والثقافية الكبرى لكاف الشعوب .

ومن ناحية أخرى ساعد على دعم التضامن الدولى أزدياد العلاقات الاقتصادية الدولية زيادة كبيرة ؛ نتيجة للثورة الصناعية وتحسين وسائل الانتاج والنقل والأساليب التجارية والمالية, والتشعب المتزايد لحاجات البشر .

ولا جدال فى أن هذه الصلات الحتمية بين الشعوب جعلت الحدود المفروضة حول الدول حدودا وهيمة, وأوجدت ما يسمى بالمجتمع الدولى الذى يربط بين الأفراد والجماعات التابعين لدول مختلفة, كما يربط بين الدول نفسها .

كما أدت المخاطر المشتركة التى يتعرض لها الجنس البشرى فى الوقت الحالى نتيجة للحروب الحديثة وللاختلالات الاقتصادية والاجتماعية ولاكتشاف الأسلحة النووية, وتلوث البيئة الانسانية, ولامكان أستعمال الفضاء الخارجى والوصول إلى الاجرام السماوية- إلى زيادة الاحساس بوحدة المصير الانسانى .

وصاحب ذلك تطور قانونى تأكد فى النصف الثانى من القرن العشرين ومقتضاه الاعتراف للانسان بعدد من الحقوق الاساسية والاعتراف للشعوب بالحق فى تقرير مصيرها, مما أدى إلى زيادة دور الانسان والشعوب, سواء فى داخل الدولة أم فى ميدان العلاقات الدولية وأصبح الاتصال بين الشعوب لا يقل فى أهمية وآثاره عن الاتصال الحكومى, وظهرت أهمية الرأى العام فى توجيه سياسة الدولة الداخلية والخارجية .

وهكذا اشتد الاحساس بالتضامن الدولى الذى يستند على آمال الشعوب فى ايجاد عالم يسوده السلام والرخاء ويستطيع الاستفادة من منجزات العلم والتكنولوجيا كما يستطيع مواجهة المخاطر المشتركة التى تهدد الجنس البشرى .

يبد أن كل ما تقدم لا ينفى أنه فى داخل الدولة الواحدة تبلغ الوحدة الوطنية أقصاها من القوة, والفضل فى هذا يرجع إلى أوجه الشبه الكثيرة التى تربط بين المواطنين من وحدة الجنس واللغة والعقيدة, ومن تاريخ مشترك, واتحاد فى ظروف البيئة الاقتصادية .

ولكن التضامن المبنى على الشبه يقل ويضعف فى العلاقات بين الدولة المختلفة؛ وذلك لاختلاف الأجناس والاديان والثقافات ولتضارب المصالح القومية. والعنصر الجوهرى فى التضامن الدولى هو الاحتياج المتبادل, فالتجارة الدولية والتبادل المالى والثقافى والانسانى بين الشعوب أمر لاغنى عنه, ويزداد مع الزمن .

ويمكن القول أن كافة الدول أصبحت فى حالة تبعية أقتصادية متبادلة, وهذا سواء بالنسبة للدول المتقدمة التى تنظر وراء حدودها للحصول على المواد الأولية وعلى الاسواق اللازمة لتصريف مصنوعاتها, أو الدولة الآخذة فى النمو التى تحتاج إلى تصدير حاصلاتها وثرواتها الطبيعية وإلى الحصول على الآلات والمواد المصنعة والخبرة الفنية والاموال اللازمة للتنمية .

ومن الثابت أن الدولة تحتاج أولا إلى الدخول فى علاقات مستمرة مع الدول التى تكملها من الناحية الاقتصادية أو التى ترتبط معها بروابط ثقافية خاصة, وهى تحتاج بعد ذلك إلى التعامل مع سائر الدول تحقيقا للرخاء المشترك واستفادة من تجارب الغير .

ويلخص مما تقدم أن سكان العالم يرتبطون برابطة التضامن الدولى ولكنة لا يزال ضعيفا إذا ما قورن بالتضامن الوطنى . ولا ريب فى أن ضعف رابطة التضامن الدولى تؤثر بصورة كبيرة فى طريقة تنظيم المجتمع الدولى .

2-   النظام القانونى الدولى :

  للمجتمع الدولى نظامه القانونى الذى يتفق مع ضعف رابطة التضامن الدولى ومع طبيعة العلاقات التى تتم بين الدول فى العصر الحديث .

فمن الملاحظ أن الدول ترتبط بعلاقات قانونية يزداد عددها وتتطور طبيعتها مع ازدياد ونمو التضامن الدولى . فالدول تلتزم بمعاهدات تجب مراعاتها اذ أن لها قوة قانونية ملزمة, كما أنها تعترف بالعرف الاولى وتطبقه, كما وجدت محاكم لتفصل فى المنازعات التى تقوم بين الدول . وزيادة على ذلك تجد أنه قد نشأت منظمات دولية عالمية سياسية وفنية, كما ظهرت منظمات دولية أقليمية, ولقد ساهمت هذه المنظمات فى تدعيم قواعد القانون الدولى .

وتحكم نظرية سيادة الدول النظام القانونى الدولى . فواقع الأمور أن العائلة الدولية قد اعترفت منذ القرن السادس عشر بنظام مبناه لعتبار الدولة أعلى سلطة فى داخل اقليمها وعدم خضوعها فى علاقاتها مع الدول الأخرى لأى سلطة خارجية . ولهذا كان للاتفاق والرضا أهمية كبرى فى المجتمع الدولى, وانعدمت فيه السلطات المشروعة والقضائية والمنفذة بشكلها المعروف فى النظام الوطنى ؛ وأصبح من مقتضيات السيادة الوطنية أن النظام القانونى الدولى ينشأ الدول واتفاقها ولا يفرض عليها .

وتدل الدلائل على أنه على الرغم من التيارات الحديثة فى القانون الدولى العام التى تهاجم نظرية السيادة , مهما اجتهد العلماء والفقهاء فى تفنيذها من الناحية النظرية, فان تطور القانون الدول العام – حتى فى السنين الأخيرة – يميل الى تأكيدها, بالتالى إلى تعزيز قاعدة عدم جواز المساس بالسيادة الوطنية . ومن هنا عهد جاء عصبة الامم مؤكدا وحامياً لسيادات الدول الأعضاء . كما أن ميثاق الامم المتحدة لم يستطيع أن يضحى كذلك بفكرة السيادة الوطنية.

لذلك كان أساس وجود المجتمع الدولى فى الوقت الحالى هو حاجة الدول على التعاون فيما بينها ، فمع احتفاظ كل منها باستقلالها وذاتيتها تشترك جميعاً فى تكوين ارادة عليا تختص بوضع القواعد التى تنظم المجتمع الدولى، ولقد نتج عن ذلك ظهور النظام القانونى الدولى لكى يحدد الاختصاص المعترف به للدول ولسائر أشخاص المجتمع الدولى إلأى تحقيقها وطرق تحقيقها .

ومن الطبيعى أن يكون النظام القانونى الدولى أضعف من النظام الداخلى وذلك لأنه ليس مفروضاً بواسطة سلطة عليا منظمة، كما أنه لايحتوى على تنظيم كامل ودقيق لكافة مظاهر العلاقات الدولية؛ وذلك لصعوبة انشاء القواعد القانونية الدولية . ولاريب أنه كلما قويت رابطة التضامن الدولى وترتب على ذلك زيادة القواعد القانونية بين الدول، ونمو الاحساس بأهمية النظام القانونى الدولى .

3-   السلطات الدولية :

       يستكمل المجتمع تكوينه السياسى حينما تظهر فيه هيئات تسهر على وضع قواعد النظام القانونى، وعلى المطابقة بينها وبين الواقع بتطبيق جزاء على الاخلال بها والا فقدت تلك القواعد صفتها كقواعد قانونية .

والمجتمع الدولى تغيب فيه مثل هذه الهيئات العليا؛ وتقوم الدول عادة بمباشرة الاختصاصات التى كان يجب أن تباشر أصلاً بواسطة السلطات الدولية فهى التى تشترك فى انشاء القانون الدولى وتعديله . وهى التى تفصل فى مدى احترام القانون الدولى، وهى التى توقع الجزاء على من يخالف القاعدة القانونية الدولية .

وابتداء من سنة 1919، انتظمت الدول فى منظمات عالمية سياسية تشرف على تحديد أهداف المجتمع الدولى وعلى استتباب الأمن الدولى، فتكونت عصبة الامم وبقيت مشرفة على العلاقات الدولية حتى قيام الحرب العالمية الثانية سنة 1939، وحلت محلها سنة 1945 الأمم المتحدة التى جعلت لنفسها اختصاص الاشراف على العلاقات الدولية والمحافظة على الأمن الدولى

والى جانب هذه المنظمات الدولية العالمية ظهرت منظمات اقليمية أعطيت اختصاص المحافظة على الأمن وتشجيع التعاون فى الجماعة الاقليمية التى نشأت فيها، كمنظمة الدول الامريكية والجامعة العربية والسوق الاوربية المشتركة ومنظمة الوحدة الافريقية  .

ولقد كثر التعليق على المنظمات الدولية، فتارة يوصف تكوينها بالضعف وتنعت مواثيقها بالقصور، وتارة أخرى يسخر الكتاب من فكرة التنظيم الدولى ويبدون عدم ايمانهم بامكانية احلال التعاون الدولى محل صراع القوى وتحويل الشعوب عن الحرب، وتارة كان النقد يوجة إلى العاملين فى المنظمات الدولية .

ونحن نميل إلى الاعتقاد بأن المنظمات الدولية لايمكن اعتبارها سلطات عليا طالما أن المجتمع الدولى يخضع لنظام السيادة الوطنية . فواقع الأمور أن هذه المنظمات ولدت فى جو من التناقض مبناه صراع الدول وتنافسها ثم حاجتها رغم ذلك إلى التعاون فيما بينها مع الاحتفاظ بسيادتها واستقلال الأمر الذى يتنافى مع الخضوع لسلطة سياسية عليا  .

ويترتب على ذلك أن المجتمع الدولى يختلف فى تكوينه عن المجتمع الوطنى فالأول ضعيف التضامن ناقص التنظيم، أما الثانى فقوى التضامن قد كمل تنظيمه، وخضع أفراده لسلطاته المشرعة والمنفذة القضائية .

 

                          ** البحث الثالث**

                    التمييز بين القانون الدولى العام

                    وبين الأخلاق والمجاملات الدولية

يجب التمييز بين قواعد القانون الدولى العام، وبين مجموعة أخرى من القواعد غير القانونية تنظم تصرفات الدول كقواعد الأخلاق أو المجاملات.

1-   الأخلاق الدولية :

هى مجموعة من المبادئ يمليها الضمير العالمى، ويقيد بها تصرفات الدول، ولكنها ليست ملزمة من الناحية القانونية، ومثالها وجوب استعمال الرافة فى الحروب، ووجوب مراعاة الصدق والامانة، وضرورة نجدة الدول التى تحل بها الكوارث .

وتتميز قواعد الأخلاق الدولية باعتمادها فقط على الضمير العالمى وبأن مخالفتها لا ترتب المسئولية الدولية . والعمل الاخلاقى يفقد صفته إذا كان لا يصدر عن ضمير حر، أو إذا أتاه شخص تحت تأثير الخوف من جزاء تطبقة سلطة خارجية . أما القانون الدولى فانه يراعى اعتبارات اقتصادية أو سياسية بالاضافة إلى الاعتبارات الأخلاقية، كما أن مخالفة أحكام ترتب المسئولية الدولة وتوقع الجزاءت القانونية .

 ومن الملاحظ أن كثيرا من قواعد الأخلاق الدولية اندمجت ضمن قواعد القانون الدولى العام، ومثال ذلك اتفاقيات جنيف سنة 1949 الخاصة بحماية أسرى وجرحى الحرب . فهذه الاتفاقيات جعلت بعض البادئ التى كانت تأمر بها الأخلاق الدولية فيما يتعلق بمعاملة أسرى الحرب قانةناً ملزماً للدولة .

2-   المجاملات الدولية :

       تجب التفرقة بين قواعد القانون الدولى العام وقواعد المجاملات الدولية والأخيرة عبارة عن قيام دولة بعمل هى غير ملزمة به قانوناً أو أخلاقا، أو امتناع عن عمل هى غير ملزمة بالامتناع عنه قانوناً أو أخلاقاً، ويكون الدافع لها على ذلك توطيد العلاقات بينها وبين دولة أخرى .

ومثال ذلك مراسم التحية البحرية واستقبال رؤساء الدول وعدم أسر سفن الصيد فى حالة الحرب .

وتختلف المجاملات الدولية عن قواعد القانون الدولى العام فى أن عدم قيام الدولة بما يعتبر مجاملة دولية لا يعد عملاً غير مشروع ولا يترتب عليه أية مسئولية قانونية، وكل ما يمكن أن يترتب على هذه المخالفات أن تعاملها الدول الأخرى بالمثل.

وتتميز قواعد المجاملات عن قواعد الأخلاق فى أن القواعد الاخيرة ملزمة، وان لم يكن لها جزاء يعتمد على القهر والجبر . ويترتب على ذلك أن مخالفة دولة ما لقاعدة أخلاقية فى مواجهة دولة أخرى لا يترتب عليه امكان خروج الدولة الأخيرة على قواعد الاخلاق .

ومن الممكن أن تتحول قاعدة المجاملات إلى قواعد قانونية إذا ارتضت الدول الالتزام بها كقواعد قانونية، فحصانات أعضاء البعثات الدبلوماسية ظهرت فى أول الأمر على صورة مجاملات، ثم انتهى بها الأمر إلى الاندماج ضمن قواعد القانون الدولى العام .

 

                          ** الفصل الثانى **

                      مصادر القانون الدولى العام 

المصادر الرسمية للقانون الدولى العام :

تتولى فيما يلى تحديد المصادر الرسمية للقانون الدولى العام، ونعنى بها مجموعة الوسائل أو الطرق التى تنشئ القواعد القانونية الملزمة للدول .

ولما كان المجتمع الدولى ضعيف التنظيم، فانه من الطبيعى أن نكتشف فى مجال تحديد المصادر الرسمية للقانون الدولى العام أسلوباً يختلف عن أسلوب القانون الوطنى؛ وذلك لأن عملية انشاء القواعد القانونية الدولية لا ترتبط بسلطة تشريعية منظمة، وانما تعتمد على مساهمة الدول نفسها فى انشاء تلك القواعد . ويترتب على ذلك بالضرورة أن المصادر الرسمية للقانون الدولى يجب أن تنحصر بالدرجة الأولى فى الوسائل التى تكشف عن قواعد قانونية تعترف بها الدول بصورة أو أخرى . 

ولقد عددت المادة الثامنة والثلاثون من النظام الأساسى لمحكمة العدل الدولية مصادر القانون الدولى العام والنظام الأساسى لهذه المحكمة له أهمية خاصة حيث انه قد ألحق بميثاق الأمم المتحدة سنة 1945، انضمت صراحة لنظام المحكمة دون أن تنضم إلى عضوية الأمم المتحدة كسويسرا مثلاً . وزيادة على ذلك فان نظام محكمة العدل الدولية الملحقة بالامم المتحدة يطابق لائحة محكمة العدل الدولية الدائمة التى كانت ملحقة بعصبة الأمم والتى قبلتها فى الفترة ما بين الحربين العالمتين دول كالمانيا لم تنضم بعد إلى الامم المتحدة . لكل ذلك سنقوم بشرح مصادر القانون الدولى العام على أساس المادة 38 من ذلك النظام .

تقسيم مصادر القانون الدولى العام وترتيبها :

ميزت المادة الثامنة والثلاثون بين نوعين من مصادر القانون الدولى العام :

( أ ) المصادر الأصلية :

وهى التى نرجع إليها لاكتشاف القواعد القانونية الدولية ولمعرفة مضمونها، وحددتها المادة 38 بالآتى :

أولا – الاتفاقات الدولية العامة والخاصة التى تضع قواعد معترفا بها صراحة من جانب الدول المتنازعة .

ثانياُ – العرف الدولى المقبول بمثابة قانون دل عليه تواتر الاستعمال .

ثالثاً – مبادئ القانون العامة التى أقرتها الأمم المتمدنة .

( ب ) المصادر الاحتياطية :

وهى مصادر ثانوية لا تنشئ قواعد دولية . ولكن يستعان بها للدلالة على وجود قاعدة من قواعد القانون الدولى ولمعرفة مدى وطريقة تطبيقها .

ولقد ذكرت المادة الثامنة والثلاثون مصدرين احتياطيين وهما :

أولاً – أحكام المحاكم .

ثانياً – مذاهب كبار المؤلفين فى القانون العام .

ومن الواضح أن الترتيب الوارد فى المادة 38 لمصادر القانون الدولى يجب أن يتبع حينما تبحث المحكمة عن القاعدة القانونية الواجبة التطبيق .

فالقاعدة المقررة فى المعاهدة يجب أن تطبق قبل البحث عن وجود عرف دولى . والقاعدة العرفية يلزم اتباعها قبل اللجوء إلى مبادئ القانون العامة، وكل هذه المصادر الأصلية أقوى من المصادر الاحتياطية .

ومع اتجاه المجتمع الدولى نحو التنظيم وممارسة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المرتبطة بها لاختصاصاتها وسلطاتها فى ميدان العلاقات الدولية، أحست الدول بالحاجة إلى استعمال وسائل جماعية للتشريع الدولى تتسم بالفاعلية والتنظيم . ولهذا اتجهت الدول إلى اتباع وسيلة المعاهدات الجماعية الشارعة، كما يظهر دور قرارات المنظمات الدولية فى انشاء قواعد القانون الدولى .

 

                         ** البحث الأول **

               المصادر الاصلية للقانون الدولى العام

  اولاً – المعاهدات كمصدر للقانون الدولى العام :

يقصد بالمعاهدات اتفاقات رسمية تبرم بين الدول ويكون لها أثر قانونى تحدده قواعد القانون الدولى العام . ويمكن التمييز بين نوعين من المعاهدات .

1-   المعاهدات العقدية :

وهى اتفاقات يتم ابرامها بين دولتين أو اكثر بشأن أمور تتصل بمصالح الدول الأطراف . ومن أمثلتها المعاهدات التجارية . ومعاهدات التبادل الثقافى، ومعاهدات الصداقة والتحالف . ولا يعد هذا النوع من المعاهدات مصدراً لقواعد عامة التطبيق، ولكنه يعتبر مصدراً لالتزامات قانونية تطبق فقط فى علاقات أطراف المعاهدة .

2-   المعاهدات الشارعة :

وهى اتفاقات متعددة الأطراف يتم ابرامها بين مجموعة كبيرة من الدول، وتتضمن انشاء قواعد عامة ومجردة لحكم علاقة دولية تتصل بمصالح المجتمع الدولى كله، كالمعاهدات التى تنظم القنوات الدولية كمعاهدة القسطنطينية التى عقدت فى 20 اكتوبر سنة1888 لتنظيم الملاحة فى قناة السويس، أو المعاهدات التى تنظم وضع البعثات الدبلوماسية كمعاهدات فينا سنة1961، أو تلك التى تضع قواعد خاصة بالحرب أو الحياد كتصريح لوندرة البحرى سنة 1907، أو بالتنظيم الدولى كميثاق سان فرنسسكو الذى أنشاء الأمم المتحدة فى 26يوليو سنة 1945ز

والمعاهدات الشارعة تنشئ قواعد دولية جديدة مقبولة بصفة عامة من الدول، أو تدون قواعد استقرار فى العرف الدولى . ويوجد بها عادة نص خاص يبيح الانضمام إليها من جانب الدول غير الموقعة عليها، كما أنه من المعتاد أن تسير كافة الدول فعلاً على مقتضى القواعد الواردة فيها أو أن تعترف بوجود هذه القواعد . ومن هنا شهبت هذه المعاهدات بالتشريعات فى الأنظمة على اعتبار انها تنشئ قواعد عامة التطبيق . ولقد أكدت اتفاقية فينا سنة 1969 لقانون المعاهدات أن القاعدة التى تقررها المعاهدة قد تلزم الدول غير الأطراف باعتبارها قاعدة عرفية .

وكانت المعاهدات الشارعة قليلة العدد فى الماضى، فكان العرف هو المصدر الأساسى للقواعد الدولية . ولقد تغيرات الأوضاع فى النصف الثانى من القرن العشرين نظراً لحاجة المجتمع الدولى لقواعد قانونية جديدة وعدم امكانية انتظار تكوينها من طريق العرف الدولى . ولهذا أصبحت المعاهدات الشارعة أسلوباً حديثاً للتشريع الدولى يتسم بالطابع الجماعى وبالتنظيم .

ولقد لجأت لجنة القانون الدولى التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة لهذا الأسلوب مرات عديدة كما سنبينه عند الكلام على تدوين العرف الدولى .

ونلاحظ أخيراً أن المعاهدات العقدية قد تساهم هى الأخرى فى أنشاء قواعد قانونية عامة التطبيق . ومثال ذلك أن تبرم معاهدة ثنائية تنظم أمراً من الأمور على نحو معين، ثم يتكرر بعد ذلك ابرام مجموعة من المعاهدات الثنائية تنظم أموراً متشابهة وعلى نفس النحو . فتعارف الدول وجريانها بصفة مستمرة على الأخذ بتنظيم معين لحالة ما يؤدى لنشوء قاعدة عرفية توجب على الدولى اتباع ذلك التنظيم .

والمثل الذى يعطى عادة فى هذا الصدد يتعلق بقاعدة عدم جواز تسليم المجرمين السياسين ، فلقد نشأت تلك القاعدة نتيجة لتكرار النص على عدم جواز تسليم المجرمين السياسين فى معاهدات تسليم المجرمين التى عقدت بين الدول المختلفة، مما أدى إلى نشوء عرف دولى بهذا المعنى .

ثانياً – العرف الدولى :

يقصد بالعرف الدولى مجموعة القواعد القانونية التى نشأت فى المجتمع الدولى بسبب تكرار اتباع الدول لها حتى استقرت واعتقدت الدول أن هذه القواعد ملزمة أى واجبة الاتباع .

1-   أركان العرف الدولى :

ينشأ العرف الدولى نشوءا طبيعيا فى المجتمع الدولى, لأن العرف قانون غير مكتوب, ونشوء القانون فى المجتمعات لتنظيم سلوك أفراده ظاهرة اجتماعية ترتبط بضروريات الحياة . والقواعد العرفية الدولية شأنها شأن القواعد العرفية الداخلية لا تنشأ الا اذا توافرت فيها شروط معينة .

ولقد بحثت محكمة العدل الدولية فى حكمها بتاريخ 5 نوفمبر سنة 1950 أركان العرف الدولى بمناسبة العرف الخاص بحق الملجأ . وبينت أن وجود قاعدة عرفية تتطلب أستكمال عناصر مركبة ودقيقة . ويمكننا أن نستخلص من الحكم أن العرف الدولى , شأنه فى ذلك شأن العرف الداخلى ؛ له ركنان وهما : الركن المادى والركن المعنوى .

(أ‌)          الركن المادى :

هو تكرار اتباع الدول لقاعدة ما لحكم علاقة معينى فيثبت بذلك أن ثمة قاعدة أصبحت مقبولة من المجتمع الدولى. وحتى يمكن اثبات ذلك , لابد من مراجعة سلوك الدول وتحديد السوابق التى طبقت فيها تلك القاعدة والسوابق الدولية تستفاد من أنواع مختلفة من التصرفات :

(أ‌)          فقد تكون السوابق الدولية تصرفات تأتيها الحكومة نفسها فى علاقاتها الدولية, ومن هنا وجب لمعرفة العرف الدولى استقراء سلوك الدولة ومراجعة المراسلات الدبلوماسية والوثائق الدبلوماسية الأخرى الصادرة عن رؤساء الدول والهيئات الاخرى المشرفة على علاقات الدول الخارجية, وكذلك المعاهدات الثنائية والجماعية التى تكشف عما تجرى عليه الدول فى علاقاتها.

(ب‌)     وقد تنشأ عن تصرفات غير دولية كتكرار النص على قاعدة دولية فى التشريعات الداخلية للدول المختلفة من قوانين أو لوائح, أو فى القرارات والتعليمات الوطنية التى يستفاد منها انصراف نية الدول إلى تطبيق قاعدة دولية .

(جـ) وقد تكون احكام المحاكم الداخلية والدولية وأحكالم المحكمين الدوليين سوابق دولية يستفاد من مراجعتها طبيق قاعدة دولية ما .

(د) وأخيرا فقد تنشأ السوابق الدولية تنيجة لقرارت وتصرفات تصدر عن المنظمات الدولية العالمية أو الاقليمية .

ويجب أن يطرد استعمال القواعد العرفية من جانب الدول بحيث تصبح مستقرة وثابتة خلال فترة من الزمن . ولا يوجد تحديد للفترة الزمنية اللازمة لنشوء العرف الدولى, فهذه الفترة قد تطول أو تقصر على حسب ظروف نشوء كل قاعدة عرفية .

وأكدت محكمة العدل الدولية فى قضية الامتداد القارى لبحر الشمال سنة 1969 ضرورة وجود اعتراف عام بوجود القاعدة العرفية فلابد أن تنشأ بين عدد كبير من الدول, وتوافق كافة الدول عليها صراحة أو ضمنا بعدم اعتراضها على القاعدة المتبعة . وبهذا تستقر تلك القاعدة وتصبح مقيدة لسائر أفراد المجتمع الدولى ولا يمكن لدولة أن تحتج بعد ذلك بعدم اشتراكها فى تكوين العرف . كما أن الدول الجديدة التى لم تكن موجودة وقت نشوء القاعدة تلتزم بها, وذلك على أساس أن وجودها فى المجتمع الدولى يقضى قبولها لكل القواعد التى تدخل فى تكوين النظام القانونى لهذا المجتمع .

وإلى جانب القواعد العرفية ذات الصفة العالمية توجد قواعد عرفية اقليمية تنشأ فى محيط عدد محدود من الدول ولا تلزم الدول الاخرى .

(ب) الركن المعنوى :

وهو اعتقاد الدول بوجوب تطبيق القاعدة على سبيل الالزام القانونى وأن من سيخالفها سوف يناله جزاء . ولقد أشارت المادة 38 من النظام الأساسى للمحكمة إلى العنصر المعنوى حينما اشترطت أن يكون العرف مقبولا بمثابة قانون دل عليه تواتر الاستعمال .

كما بينت محكمة العدل الدولية فى قضية حق الملجأ سنة 1950 أهمية مراجعة السوابق التى يستند عليها لاثبات العرف لمعرفة ما اذا كانت الدولة قد طبقت القاعدة لاعتقادها بأنها قاعدة قانونية ملزمة, أو أنها أتت مجرد مجاملة دولية .

ولهذا يجب ألا نعتبر سابقة صالحة لتكون العرف تصرفا قصدت به دولة مجاملة أخرى تحسينا للعلاقات التى تربط بينهما, وألا نعتد بغير السوابق التى يستفاد منها اعتقاد الدولة أنها ملزمة بالتصرف على هذه الصورة .

2-   تدوين العرف الدولى وتطويره :

يمتاز العرف الدولى على المعاهدات بمرونة قواعده, وبكونها تتكور دائسا وفقا لحاجات المجتمع الدولى . ولكن هذه الميزة يقابها عيب كبير ينحصر فى غموض قواعد الدولى, وعدم تحديدها بصفة أكيدة تقطع كل شك ونزاع, ولهذا اتجه الرأى منذ مدة طويلة إلى ضرورة تدوين قواعده .

ويجب ألا تفهم التدوين هنا بمعناه فى القانون الداخلىو حيث يكون من عمل المشرع صاحب السلطة العليا فى وضع القواعد القانونية . فهذا المنى الداخلى يختلف عما قصد بالتدوين فى القانون الدولى, حيث تركت عملية التدوين بصفة عامة لنشاط الفقهاء والهيئات العلمية والمنظمات الدولية, وهى كما هو واضح, لا تملك سلطة عليا فى هذا الصدد . ولا تكون لأعمالها قيمة الزامية الا اذا اتخذت شكل اتفاقيات دولية تصدق عليها الدول .

(أ)المجهودات الفردية لتدوين العرف الدولى :

ظهرت أول التدوينات على هيئة مجهودات فردية, هى لا تعبر فى الغالب عن الحاجة الفعلية للقانون الدولى, ولكن عن مجرد آراء أو نظريات فقهية حول القانون الدولى بصفة عامة .

وأهم المجهودات من هذا النوع مجهودات العالم بلنتشى الذى أخرج تقينا للقانون الدولى العام سنة 1868, ومجهودات الأمريكى فليد الذى أظهر تقنينا آخر سنة 1872, ومجهودات الايطالى فيور الذى نشر مجموعة أخرى سنة 1889.

ولقد انتقل النشاط بعد ذلك إلى الجمعيات العلمية المشتغلة بالقانون الدولى وأهمها مجمع القانونالدولى الذى أنشئ سنة 1873, وجماعة القانون الدولى التى حملت هذا الاسم منذ سنة 1895, والمعهد الأمريكى للقانون الدولى الذى أنشئ 1912 وجامعة هارفارد الامريكية التى خصصت مجموعة كبيرة من الباحثين لتجميع القواعد الخاصة بالمواضيع الدولية المختلفة . ولقد أدت مجهودات الهيئات العلمية إلى صياغة عدد كبير من القواعد العرفية على هيئة مشروعات لاتفاقات أو تصريحات .

ولقد ساهمت هذه المجهودات فى توضيح بعض أحكام العرف الدولى .

(ت‌)     عصبة الامم وتدوين العرف الدولى :

ولما أنشئت عصبة الامم أخذت الامر على عاتقها .فأنشأت فى سنة 1924 لجنة خاصة من الخبراء لاختيار مواضيع القانون الدولى التى يمكن تقنين قواعدها فورا . واختارت اللجنة ستة موضوعات رأت أنها أصلح من غيرها لتلك العملية وهى : الجنسية, والبحر الاقليمى , ومسئولية الدولة عن الأضرار التىتلحق بأشخاص وأموال الاجانب فى اقليمها , والقرصنة , واستثمار منتجات البحار, والحصانات والامتيازات الدبلوماسية . ولقد اختارت الجمعية العامة لعصبة الأمم المسائل الثلاث الاولى للبدء فى تقنينها .

وجمعت العصبة لذلك مؤتمرا دوليا خاصا عقد فى لاهاى فى 13مارس سنة 1931 وضم هذا المؤتمر مندوبى 47 دولة, ولكن كان نصيبه الفشل اذ لم يحصل الاتفاق فيه الا على بعض القواعد الخاصة بالجنسية . ولكن هذا لا ينفى أهمية الدراسات التى قامت بها العصبة فى هذا الصدد .

(جـ) المؤتمرات الامريكية وتدوين العرف الدولى :

اهتمت جمهوريات أمريكا الشمالية والجنوبية بتدوين مبادئ القانون الدولى العام الخاصة بالقارة الامريكية واتبعت فى ذلك وسائل مختلفة .

ففى سنة 1906 عهد المؤتمر الأمريكى الذى عقد فى ريودى جانيرو الى لجنة من الفقهاء بمهمة التدوين, ولكن الحرب العالمية الاولى عطلت أعمالها .

وفى أثناء المؤتمر الأمريكى الذى عقد فى هافانا سنة 1928, وضعت مشروعات لاتفاقيات خاصة ببعض المسائل, وأقرت المؤتمرات الأمريكية التالية بعضها , وعرضتها على الدول الأمريكية للتصديق, فأهملت البعض ونفذت البعض الآخر .

وآخر مجهود بذلته الجمهوريات الأمريكية فى هذا الصدد ما نص عليه ميثاق بوجوتا سنة 1948 من أنشاء مجلس من القانونيين الامريكيين مهمته تقنين القانون الدولى العام والخاص .

(د) الامم المتحدة وتدوين العرف الدولى :

نصت المادة الثالثة عشرة من ميثاق الامم المتحدة على أن تنشئ الجمعية العامة دراسات وتشير بتوصيات بقصد تشجيع التقدم المطرد للقانون الدولى وتدوينه .

ووفقا للمادة المذكورة يكون للجمعية العامة نوعان من الاختصاص :

1-   تدوين قواعد العرف الدولى السارية المفعول .

2-   العمل على أن تنمو قواعد العرف الدولى بصورة مطردة تتفق مع الاحتياجات والظروف الجديدة للمجتمع الدولى .

    وفى نوفمبر سنة 1947 أنشأت الجمعية العامة للأمم المتحدة لجنة تعمل تحت اشرافها تسمى لجنة القانون الدولى لتقوم ببحوث ودراسات فى القانون الدولى بقصد تجميع العرف الدولى, وتشجيع التقدم المطرد لهذا القانون . ودخل فى عضوية هذه اللجنة كبار أساتذة القانون الدولى فى الدول المختلفة .

ولقد ازدات أهمية أعمال هذه اللجنة تدريجيا نتيجة لازدياد عدد أعضاء الأمم المتحدة , وللتحسن النسبى فى العلاقات بين الدول الغربية والاتحاد السوفيتى .

وتتعاون اللجنة فى عملها مع مجلس الدول الأمريكية للقانونيين ومع اللجنة القانونية الاستشارية لدول آسيا وافريقيا .وانتهت أعمال لجنة القانون الدولى فى دوراتها المختلفة إلى تدوين عدد كبير من القواعد العرفية فى صورة مشروعات لاتفاقات دولية . ومن الملاحظ أن اللجنة لم تكتف بتدوين ما هو معمول به من قواعد العرف الدولى .

بل أدخلت كذلك أحكام جديدة بقصد العمل على تقدم القانون الدولى . ولقد عرض بعض هذه المشروعات على مؤتمرات دولية دعت إلى عقدها الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث تم اقرارها ثم صدقت عليها الدول . وفيما يلى بيان بأهم ما حققته اللجنة المذكورة من نتائج فى ميدان تدوين العرف الدولى .

1-   أعدت اللجنة اتفاقية خاصة بتقليل أحوال انعدام الجنسية وبعديمى الجنسية .

2-   وأعدت اتفاقية تحتوى على مجموعة جنائية خاصة بالجرائم التى ترتكب ضد السلام وضد الانسانية . كما حضرت أتفاقية منع ابادة الأجناس البشرية سنة 1949.

3-   وكانت أعدت اتفاقيات خاصة بالبحر الأقليمى وبأعالى البحار بالامتداد القارى وبالصيد، ولقد تمت الموافقة عليها فى مؤتمر جنيف سنة 1958.

4-   أعدت اللجنة اتفاقية تنظيم التمثيل الدبلوماسى والحصانات الدبلوماسية ، وتمت الموافقة عليها فى مؤتمر فينا سنة 1961.

5-   أعدت اللجنة اتفاقية تنظم العلاقات القنصلية وتمت الموافقة عليها فى مؤتمر فينا سنة 1964.

6-   واعدت اللجنة اتفاقية لقانون المعاهدات تم اقرارها فى مؤتمر فينا سنة 1969.

7-   أعدت اللجنة اتفاقية الميراث الدولى فى المعاهدات وتم أقرارها فى مؤتمر فينا سنة 1978.

8-   وتقوم اللجنة فى الوقت الحالى ، بناء على توصيات من الجمعية العامة للأمم المتحدة، بتحضير دراسات ومشروعات متعلقة بالمسئولية الدولية، وبشرط الدولة الأكثر رعاية، وبالعلاقة بين الدول والمنظمات الدولية، وبالمجارى المائية الدولية .

ثالثاً – مبادئ القانون العامة :

أشارت المادة الثامنة والثلاثون إلى مبادئ القانون العامة التى أقرتها اللأمم المتمدنة، واعتبرتها مصدراً أصليا للقانون الدولى العام .

ولقد دار نقاش كبير حول المقصود بمبادئ القانون العامة . ويذهب غالبية الفقهاء إلى أن المقصود بها مجموعة من المبادئ الأساسية التى تعترف بها النظم القانونية الداخليه للدول المختلفة . فعلى الرغم من اختلاف الأنظمة القانونية السائدة فى العالم كانظام الأسلامى والنظام اللاتينى والنظام الانجلوسكسونى والنظام الشيوعى إلى أنه من الممكن اكتشاف مبادئ مشتركة بين هذه الانظمة كمبدأ المسئولية التعاقدية أو المسئولية التقصيرية .

وهذه المبادئ القانونية التى تطبق بطريقة مستقرة فى داخل الدول المختلفة يمكن الاستعانة بها وتطبيقها فيما بين الدول، إذا لم يكن هناك مبدأ آخر مقرر فى معاهدة أو فى عرف دولى . ويشترط بالطبع أن تكون المبادئ الداخلية المراد تطبيقها فى المجتمع الدولى متسقة وروح القانون الدولى العام، ومتفقة مع المجتمع الدولى . مثال ذلك أن من مبادئ القانون الداخلى مبدأ عدم جواز الالتجاء إلى القوة فى العلاقات الفردية، بيد أن هذا الالتجاء يكون جائزاً أحياناً فى القانون الدولى .

ولقد ذهب بعض الفقهاء مثل جورج سل إلى انتقاد نص المادة الثامنة والثلاثين لذكره مبادئ القانون العامة بين مصادر القانون الدولى .

وحجته فى ذلك أن مثل هذه المبادئ تدخل فى نطاق العرف الدولى . ولكن هذا القول على اطلاق خاطئ، لأن هناك فارقاً بين العرف وبين مبادئ القانون العامة . فلكى تصبح القاعدة عرفا دولياً يشترط أن يتكرر تطبيقها من جوانب الدول، على النحو السابق بيانه. فى حين أن القاضى الدولى قد يطبق للمرة الأولى مبدأ من مبادئ القانون العامة على علاقة دولية لا يوجد بشأنها عرف أو معاهدة .

 ومما لا شك فيه أن أعتبار مبادئ القانون العامة من المصادر الأصلية للقانون الدولى، ويدخل عنصر ديناميكياً فى ذلك القانون مما يساعد على تطويره واستكمال قواعده كلما دعت الحاجة إلى ذلك .

ولقد طبقت محكمة العدل الدولية الدائمة مبادئ القانون العامة فى قضية مصنع كورزوف سنة 1937 بين ألمانيا وبولنده فقررت " أنه لا يجوز وفقاً لمبادئ القانون العامة أن يدعى أحد الأطراف – بولندة – أن الطرف الأخر – المانيا- قد أخل بالتزام مفروض عليه، إذا كان الطرف الأول قد لجأ إلى طرق غير مشروعه لمنع الطرف الثانى من تنفيذ التزامه ". كما طبقت محكمة العدل الدولية مبادئ القانون العامة فى عدد آخر من القضايا . ومن أمثلة ذلك الحكم الذى صدر من المحكمة فى قضية مضيق كورفو بتاريخ 9أبريل سنة 1949 بمناسبة النزاع بين البانيا وانجلترا . فقد قررت المحكمة أنه يجوز الالتجاء فى المسائل الدولية إلى وسائل الاثبات غير المباشرة المقبولة فى جميع النظم القانونية وذلك إذا تعذر الالتجاء لوسائل الاثبات بسبب الرقابة التى تفرضها دولة ما على اقليمها .

 

                               ** المبحث الثانى **

                       المصادر الاحتياطية للقانون الدولى العام

اولا – القضاء الدولى :

يقصد بالقضاء فى هذا المجال مجموعة من المبادئ القانونية التى تستخلص من أحكام المحاكم الدولية . والقضاء الدولى لا يعد مصدراً أصلياً للقانون الدولى العام، فهو لا يخلق قواد جديدة لأن مهمة القاضى تقتصر على تطبيق القانون القائم، ولان الحكم الدولى لا يلزم الا أطراف النزاع وذلك بالنسبة للنزاع المحكوم فيه فقط .

 ومع أن السوابق القضائية الدولية غير ملزمة إلا أنه من الممكن الرجوع إليها للاستدلال على ما هو قائم ومطبق من قواعد القانون الدولى ولتفسير ما غمض منه . وقد يستفاد من عمومية نص المادة 38شموله لأحكام المحاكم الوطنية، ولكن هذه الأحكام ليس لها حجية أمام المحاكم الدولية، وانما قد تساعد فقط فى اثبات قاعدة عرفية ما .

ولقد أظهرت محكمة العدل الدولية الملحقة بالأمم المتحدة اهتماماً بالغاً بأحكام المحاكم الدولية . فقد أشارت فى كثير من أحكامها وآرائها الاستشارية إلى مبادئ استقرت عليها محكمة العدل الدولية الدائمة التى كانت ملحقة بعصبة الأمم .

ونشير إلى ناحية هامة من نواحى نشاط محكمة العدل الدولية، وهى تتعلق باختصاصها باصدار آراء استشارية لمجلس الأمن وللجمعية العامة للأمم المتحدة ولبعض الأجهزة الدولية الاخرى تتصل بتفسير النقاط القانونية وعلى الخصوص بتفسير ميثاق الامم المتحدة ومواثيق الهيئات المتخصصة . فهذه التفسيرات والفتاوى وأن كانت استشارية إلا أن فروع الأمم المتحدة تعمل عادة بمضمونها، وهذا ما يظهر أهمية دور هذه المحكمة من ناحية تحديد قواعد القانون الدولى العام وتفسيرها.

ثانياً- الفقة الدولى :

أن القانون الدولى مدين منذ القدم بدراسات مجموعة كبيرة من العلماء تولوا شرح قواعده وبناء نظرياته المختلفة . ومجموع ما نشر من أبحاث ومؤلفات هؤلاء العلماء يسمى بالفقة الدولى .

ومن البديهى أن الفقهاء لا يملكون من السلطة ما يكفى لفرض آرئهم على الدول، ولهذا لا يعد الفقة مصدراً أصلياً للقانون الدولى العام، بل هو مصدر احتياطى نرجع إليه للتعرف على القواعد الدولية وفهمها وتفسيرها .

غير أنه يجب الاحتياط عند الرجوع لأقوال الفقهاء لانها كثيرا ما تكون مشبعة بالروح الوطنية ويكون الغرض منها تأييد السياسة الوطنية لدولة الفقية .

 

                                    ** المبحث الثالث **

                             المصادر الأخرى للقانون الدولى

1-   قواعد العدالة :

فكرة العدالة من الأفكار التى لم يمكن حتى الآن تحديدها بطريقة واضحة، وكثيراً ما يربطها الفقهاء بالحكمة من التشريع أو بمبدأ حسن النية .

ويمكن تعريف العدالة بصفة عامة بأنها مجموعة من المبادئ المتوازنة ويوحى بها العقل وحكمة التشريع، وهى فكرة مرنة تختلف بحسب الزمان والمكان .

ويرى بعض الفقهاء وجوب اللجوء لقواعد العدالة لتكملة مصادر القانون الدولى العام، وأشارة هؤلاء إلى عدة أحكام صدرت من محكمة التحكيم الدولية الدائمة تؤيد رأيهم، وعلى الخصوص إلى حكمها فى قضية شركة الملاحة النرويجية سنة 1922 الذى قررت فيه أنه يجب الحكم وفقاً لمبادئ العدالة عند انعدام القواعد القانونية .

ويقيد النظام الأساسى لمحكمة العدل الدولية حق تلك المحكمة فى الفصل فى القضايا وفقاً لمبادئ العدالة والانصاف، بضرورة الحصول على موافقة الدول المتنازعة على ذلك . فلا يمكن للمحكمة أن تلجأ لمبادئ العدالة والأنصاف لتستمد منها الحكم القانونى ما لم تمنحها الدول المتنازعة هذا الحق .

ولا يفوتنا أن ننبه إلى أن الفصل فى نزاع دولى وفقاً لمبادئ العدالة يختلف عن الفصل فى نزاع دولى على أساس المصلحة ودون تقيد بالقانون . وذلك لأن العدالة تعتبر مصدراً للقواعد القانونية ؛ ولا يجوز الفصل فى نزاع على أساس تطبيق القانون الا بموافقة الاطراف على ذلك .

2-   قرارات المنظمات الدولية كمصدر للقانون الدولى :

استقر الفقه الدولى على القول بأن المنظمات الدولية تساهم فى أنشاء القواعد القانونية الدولية بصورة مختلفة .

وتأخذ المساهمة التشريعية للمنظمات الدولية عادة شكل قرارات ملزمة تصدر عن أجهزة المنظمة الدولية أو الأجهزة المتفرعة عنها فى حدود اختصاص . ومن أمثلة ذلك القرارات التى تصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة فى الشئون التنظيمية والادارية : كالقرارات الخاصة بالعضوية، وبالشئون المالية وشئون الموظفين، وبالأقاليم الموضوعة تحت الوصاية . وبانشاء وتنظيم قوات حفظ السلام .

أما التوصيات التى تصدر عن أجهزة المنظمات الدولية فلا يمكن رغم قيمتها الأدبية اسباغ الصفة التشريعية عليها الا إذا كانت تعكس وجود اتفاق عام حول وجود مبادئ قانونية معينة أو تؤكد وجود عرف دولى واجب الاحترام أو تساهم فى انشاء عرف دولى جديد .

ويحتفظ بعض الفقهاء بالنسبة للقوة التشريعية لقرارات المنظمات الدولية على أساس أن موافقة أعضاء منظمة دولية على قرار معين يخضع لاعتبارات الدبلوماسية الجماعية وتختلف عن الاعتبارات الواقعية التى تفرضها المصالح الوطنية على الدولة فى علاقاتها الثنائية خارج المنظمة الدولية .

 

                                    ** الباب الثانى **

                       الصفة الالتزامية لقواعد القانون الدولى العام

                                   الفصل الأول

                   اساس القوة الالزامية لقواعد القانون الدولى العام

الخلافات القديمة :

منذ القانون الدولى العام, قام الخلاف بين الفقهاء حول طبيعة قواعده, وشك البعض فى قوتها الملزمة. فلقد أنكر هوبز وأوستن وأتباعهما فى انجلترا ؛ وهجل وأتباعه فى ألمانيا وجود قانون دولى. وذكر هؤلاء أن قواعد القانون الدولى عبارة عن مجرد قواعد أخلاقية لا يترتب على مخالفتها أية مسئولية قانونية .

ولقد عارضت أغلبية الفقهاء هذه الآراء لأنها تنبنى على فكرة خاطئة عن القاعدة القانونية .

فمدرسة أوستن تعرف القانون تعريفا ضيقا فهو مجموعة من القواعد التى تحكم سلوك الانسان والتى توضع وتنفيذ بواسطة سلطة سياسية عليا. ويشترط لوجود قاعدة قانونية توافر ثلاثة عناصر :

(أ‌)          أن تكون القاعدة من عمل سلطة سياسية عليا هى السلطة المشرعة .

(ب‌)     أن تكون هناك محاكم خاصة تتولى الرقابة على مدى المطابقة بين تصرفات الأفراد وبين القاعدة القانونية .

(جـ) أن يوجد جزاء منظم يطبق على من يخالف القاعدة القانونية .

واذا كان التعريف السابق صحيحا فالقانون الدولى ليس بقانون, لأنه مجموعة من القواعد تنظم تصرفات الدول ذات السيادة, ومن المعلوم أنه لا توجد قوة سياسية لها ارادة أعلى من ارادات الدول تستطيع أن تفرض عليها القانون الدولى العام وتلزمها باحترامه .

ونلاحظ على هذا الرأى ما يلى :

لقد خلط الفقهاء المنكرون للقانون الدولى العام بين فكرتين مختلفين تمام الاختلاف : فكرة التشريع وفكرة القاعدة القانونية, لقد قالوا أن القاعدة القانونية هى القاعدة المنظمة للتصرفات البشرية التى تسنها وتنفذها سلطة سياسية عليا, وهذا القول ان صدق على التشريع بالمعنى الضيق الذى هو بلا جدال من أهم مصادر القانون, فهو لا يصدق على غير ذلك من القواعد القانونية كالقواعد العرفية مثلا .

فليس ضروريا لكى توجد قاعدة قانونية أن تصاغ ويصدر بها تشريع من سلطة عليا, كما أنه ليس من الضرورى أن توجد محاكم خاصة تتولى تطبيق تلك القاعدة, والواقع أن القواعد القانونية ظهرت فى المجتمعات القديمة قبل أن تعرف التشريع وقبل أن توجد المحاكم المنظمة .

والجزاء المنظم الذى تباشره سلطة تنفيذية لم يكن موجودا فى كل المجتمعات . وهو ان يساعد فى المجتمعات المتطورة على نفاذ القاعدة القانونية فانه ليس شرطا لوجودها , لايمكن القول بأن القانون الداخلى يمكنه كفالة تنفيذ القواعد القانونية بصورة مطلقة. وحتى فى أحسن الدول من الجزاء الذى تطبقة السلطات العامة فهناك جرائم لا يعاقب مرتكبوها لعدم الاستدلال عليهم, ومدينون لايمكن التنفيذ عليهم لاعسارهم .

ومن المسلم به أن بعض قواعد القانون الداخلى يصعب حمايتها بواسطة جزاء منظم, فمن المعلوم أنه لا يمكن اتخاذ وسائل تنفيذية فى مواجهة الدولة, وأن تطبيق قواعد الدستور الخاصة بالعلاقات بين السلطات العامة لايتم فرض احترامها بواسطة وسائل القهر والجبر, بل يتوقف فى العادة على مدى تمسك السلطة التنفيذية لسيادة القانون .

ومن ثم يكون جزاء القاعدة القانونية عبارة عن رد فعل المجتمع تجاه العمل المخالف للقانون, وهو يرتبط بمدى شعور أفراد المجتمع بضرورة احترام القاعدة القانونية, ولا يتوقف هذا الشعور العام بداهة على ما يملكة الحكام من وسائل القهر, لأنه أعلى من سلطة الحاكم وهو الضمان الاساسى لاستقرار القانون واحترامه .

 

                                المبحث الأول

                  الاعتراف بالصفة الالزامية للقانون الدولى 

1-   توافر شروط القاعدة القانونية فى قواعد القانون الدولى العام :

  من المتفق عليه فى الوقت الحالى أن قواعد القانون الدولى العام تنشأ بطريقة سليمة, وتحتوى على جميع شروط وجود القاعدة القانونية .

 ولا أدل على ذلك من أن أشخاص القانون الدولى وبصفة خاصة الدول لاتنكر الصفة الالزامية لذلك القانون، فالدول تعقد المعاهدات وتلتزم بها، وتشترك فى تكوين العرف الدولى وتحترمه، وتعترف بصفة عامة بقواعد القانون الدولى، وهذا السلوك من جانب الدول يعتبر نتيجة حتمية لرابطة التضامن الدولى ولضروريات الحياة فى المجتمع الدولى .

وتعتبر المحاكم الدولية أن الالتزام الواردة فى المعاهدات التزامات قانونية وليست مجرد التزامات أخلاقية، كما تعتبر تفسير المعاهدات مسالة قانونية وليست سياسية .

أما الزعم القائل بأن الدول تبرم المعاهدات ثم تعود لنقضها حينما تجد ذلك من مصلحتها فهو يدل على سطحية فى التفكير، فمن الثابت أن الدول تجد من مصلحتها كقاعدة عامة احترام المعاهدات، لأنها تتضمن تنظيماً ضرورياً لمصالحها المشتركة، أما المعاهدات التى يتم الآخلال بها أحياناً فهى عادة المعاهدات السياسية التى لا تتلاءم مع الواقع الاجتماعى الذى يسعى لفرض وجوده . وتسعى الدول دائماً إلى ايجاد تبريرات قانونية لأفعالها المخالفات للقانون الدولى، وذلك لشعورها بالصفة الالزامية لذلك القانون  لخشيتها من رد فعل المجتمع الدولى .

 وإذا كان المجتمع الدولى لا يملك حتى الآن سلطات خاصة به وظيفتهاانشاء القواعد القانونية وكفالة تنفيذها، فهذا الأمر ليس بغريب، وذلك لانه مجتمع حديث إذا ما قورن بالمجتمع الوطنى، ويثبت التاريخ أن كافة المجتمعات البدائية أو غير المتقدمة كانت لا تملك مثل هذه السلطات المنظمة .

فالدول رغم التزامها بقواعد القانون الدولى لا تخضع لسلطة عليا وذلط لانعدام السلطات الدولية أو لضعفها، والذى يحدث فى المجتمع الدولى هو حلول السلطات الوطنية محل السلطات الدولية فى القيام بالاختصاصات التشريعية والتنفيذية والقضائية، فالدولة تنشئ قواعد القانون الدولى التى تلتزم بها وتطبقها،فتشترك فى تكوين العرف الدولى وتعقد المعاهدات وتساهم فى المؤتمرات الدولية وفى أعمال المنظمات الدولية التى تكون طرفاً فيها، وهى التى تقدر كقاعدة عامة مدى المطابقة بين تصرفاتها وبين قواعد القانون الدولى  وكذلك مدى احترام الدول الأخرى للقانون الدولى، كما أن مسئولية توقيع الجزاء فى المجتمع الدولى تقع على الدول بصفة فردية أو جماعية .

 ومن الممكن وجود قواعد القانون الدولى وبدون أن يحميها جزاء منظم تطبقه سلطة منظمة .

فالجزاء، كما قدمنا، عبارة عن رد فعل المجتمع تجاه عمل خارج على القانون، فهو وسيلة الغرض منها ضمان تنفيذ القاعدة القانونية وحمايتها بتطبيق جزاء اجتماعى حتى لو يكن هذا الجزاء منظماً .

2-   صور الجزاء فى القانون الدولى العام :

وجزاء قاعدة القانون الدولى جزاء غير منظم، فهو لايصدر كقاعدة عامة عن سلطة عليا، ولاتوجد أجهزة عسكرية دولية تختص بتنفيذه. وللجزاء فى القانون الدولى عدة صور :

( أ ) جزاءات تتضمن ممارسة ضغطاً سياسياً : ومثالها الاحتجاج الدبلوماسى على تصرف مخالف للقانون الدولى أو اعلان دولة أو أكثر تاييدها لاحترام قاعدة دولية معينة . وقد يأتى الضغط السياسى بين مؤتمر دولى أو منظمة دولية كاستنكار مؤتمرات دول عدم الانحياز مؤتمرات رؤساء دول الوحدة الافريقية لسياسة التمييز العنصرى التى تمارسها جنوب أفريقيا، وكقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة باستنكار وادانة سياسة التفرقة العنصرية التى تمارسها جنوب افريقيا .

( ب ) جزاءات قانونية : ومثال عدم الاعتراف بدولة أو بحكومة أو بموقف يتضمن مخالفة لأحكام القانون الدولى، أو اعلان بطلان معاهدة لعدم توافر شرط من شروط أنعقادها أو لمخالفتها للقانون الدولى العام، أو فسخ معاهدة لخروج احدى الدول الأطراف على نص من نصوصها  .

( جـ ) جزاءات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية : ومن الامثلة على ذلك قطع العلاقات الدبلوماسية، وطرد أحد أعضاء بعثة دبلوماسية، واجراءات المقاطع الاقتصادية، ووقف الخدمات البحرية الجوية أو البريدية، وقطع التعامل الثقافى ، وفرض الحصر البحرى، واستعمال القوة المسلحة دفاعاً عن النفس .

3-   الاتجاه نحو تدعيم قواعد القانون الدولى العام :

    مع أن الطريق لايزال طويلاً وشاقاً قبل أن تقبل الدول الخضوع لسلطة أعلى منها . الا أنه يمكن القول أن الدول تتجه إلى تدعيم قواعد القانون الدولى

( أ ) فلقد دونت كثير من قواعد القانون الدولى العام فى مجموعة من الاتفاقات الدولية مثل اتفاقات لاهاى 1889، وسنة 1907، وعهد عصبة الأمم سنة 1919، وميثاق الأمم المتحدة1945. ولقد نشطت حركة تدوين القانون الدولى العام، والغرض منها تدوين قواعد القانون المبعثر بين مختلف مصادره ونشرها على الناس فى مجموعات دولية على غرارمجموعات القوانين الداخلية . وتأخذ هذه المجموعات شكل اتفاقيات دولية متعددة الأطراف كاتفاقيات جنيف سنة 1958 التى تحتوى على قانون العلاقات الدبلوماسية، واتفاقية فينا سنة 1963 الخاصة بالعلاقات القنصلية؛ واتفاقية بروكسل سنة 1962 الخاصة بمسئولية مستغلى السفن النووية، واتفاقية فينا سنة 1963 الخاصة بالمسئولية عن الأضرار الذرية، واتفاقية فينا سنة 1969 الخاصة بالمعاهدات .

( ب ) وأكثر من ذلك فلقد نظمت الوظيفة القضائية فى المجتمع الدولى تدريجياً، فوجدت هيئات التحكيم التى أعطتها الدول اختصاص الفصل فى بعض المنازعات . وقامت مجالس الغنائم فى كل دولة بتطبيق قواعد الحرب والحياد، وأنشئت فى لاهاى فى سنة 1899 على نطاق أوسع، وبصفة دائمة بمحكمة التحكيم الدولى الدائمة، كما وجدت منذ سنة 1920محكمة العدل الدولية الدائمة والتى أعيد تنظيمها سنة 1945 باسم محكمة العدل الدولية .

( جـ ) ورغم تردد الدول فى قبول الخضوع لسلطة تنفيذية عليا، فلقد وجد نوع من الجزاء المنظم فى المحيط الدولى، تختص بتطبيقه الأمم المتحدة . وينحصر هذا الجزاء فى الوقت الحاضر فى نصوص الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة التى زودت مجلس الأمن بسلطات واسعة فيما يتعلق بالقمع بما فى ذلك استخدام القوة المسلحة لرد العدوان، وفى المحاولات التى تبذلها الجمعية العامة للأمم المتحدة لمباشرة بعض التدابير العسكرية وشبة العسكرية بقصد المحافظة على السلم والأمن الدولى .

  ويتوقف تطبيق النصوص الخاصة بالجزاءات فى ميثاق الأمم المتحدة كقاعدة العامة على موافقة الدول الخمس الكبرى التى تملك الاعتراض على قرارات مجلس الأمن الأمر الذى يجعلها محدودة الاهمية .

 

                                       ** المبحث الثانى **

                          أساس التزام الدول بقواعد القانون الدولى العام

بذل فقه القانون الدولى العام مجهودات جديرة بالاعجاب لتفسير التزام الدول بقواعد القانون الدولى . ومن الممكن تقسيم فقهاء القانون الدولى إلى مدارس متعددة .

وتعتبر مدرسة القانون الطبيعى أقدم المدارس وهى تجعل مصدر القانون الدولى مجموعة من المبادئ المستمدة من العقل وطبيعة الأشياء . ثم ظهرت المدارس الوضعية التقليدية التى تؤسس القانون الدولى على الاتفاق الذى بين الدول أصحاب السيادة .

وأخيراً ظهرت المدارس الحديثة – كالمدارس القاعدية والمدرسة الاجتماعية وقد سماها البعض بالمدارس الموضوعية لأنها تؤسس القانون الدولى على اعتبار موضوعية خارجة عن ارادة الدول .

1-   مدرسة القانون الطبيعى :

تقرر مدرسة القانون الطبيعى أن الدول ذات السيادة تتقيد فى علاقاتها المتبادلة بقواعد مصدرها طبيعة الانسان وطبيعة الدولة هى قواعد القانون الطبيعى . وقواعد القانون الطبيعىقواعد عادلة وصحيصة لأن مصدرها الطبيعة والعقل الانسانى والحقوق اللصيقة بالانسان . ومن أهم زعماء هذه المدرسة العالم الألمانى بيفوندورف . ويذهب اتجاه آخر أن مصدر القانون الطبيعى وهو الارادة الالهية .

واتجه بعض الفقهاء كالعالم الهولندى جروسيوس والعالم السويسرى فاتل إلى أمكان الاستعانة بقواعد مستمدة من العرف الدولى والاتفاقات الدولية إلى جانب القانون الطبيعى .

ولقد تعرضت نظرية القانون الدولى الطبيعى للنقد لأنها تخرج عن نطاق القانون بالمعنى الدقيق ولا يمكن أن تعتبر أساساً له . فالقانون الطبيعى يختلط أحياناً بالمبادئ الدينية، وأحياناً أخرى تكون له صفة شخصية وذلك حين يترك تحديد قواعده للعقل الانسانى، ومن هنا جاز أن يكون التحديد تحكيماً كما أن الأخذ بنظرية القانون الطبيعى يؤدى إلى اعاقة تطور القواعد القانونية وفقا للاحتياجات الاجتماعية المتغيرة .

ونلاحظ أنه رغم اضمحلال مدرسة القانون الطبيعى نتيجة لاستقرار المدارس الوضعية فى القرن التاسع عشر فقد استمر بعض الفقهاء فى تأييدها حتى فى الوقت الحاضر .

ويلوح أن السبب فى التمسك بالقانون الطبيعى هو الرغبة فى الاستناد إليه لمهاجمة بعض المعاهدات والاتفاقات والاوضاع الدولية على أساس أنها تخالف القانون الطبيعى .ونلفت النظر أخيراً إلى أن لجنة القانون الدولى التابعة للأمم المتحدة قد تأثرت عند أعلانها لاعلان حقوق وواجبات الدول سنة 1949 بفكرة القانون الطبيعى؛ وذلك على اعتبار أن الطبيعين يعتقدون بأن هناك حقوقاً تثبت للدول بحكم وجودها كالحق فى البقاء والحق فى المساواة وفى الملكية، وهى حقوق مستمدة من القانون الطبيعى .

2-   المدرسة الوضعية أو الارادية :

    نقطة البداية فى المدرسة الوضعية أن الدول تتمتع بالسيادة ولا تخضع لسلطة عليا، ويقوم القانون الدولى بالتنسيق بين ارادات الدول ذات السيادة . وهكذا تجعل هذه المدرسة من ارادة الدول الصريحة أو الضمنية أساس الالتزام بقواعد القانون الدولى العام فالقانون الوطنى يعبر عن ارادة الدولة فى داخل اقليمها، والقانون الدولى ينبع من ارادة الدول كما تظهر فى المعاهدات والعرف الدولى . ومن الواضح أن المدرسة الوضعية تأثرت بظروف المجتمع الدولى فى القرن التاسع عشر حيث كانت الاعتبارات السياسية واعتبارات المصلحة الوطنية واعتبارات القوة تطغى على أى اعتبار قانونى .

ولقد تفرع عن المدرسة الوضعية مذهبان .

( أ ) مذهب التقييد الذاتى للارادة :

زعيم هذا المذهب الفقية الالمانى يلنيك . الذى قال " عندما تتعارض ارادة الدولة مع القانون الدولى العام، فيجب أن يتوارى هذا الأخير، لأن الدولة فى مركز أسمى من كل الكبادئ القانونية ".

وتتمتع الدولة وفقاً لهذا المذهب، بالسيادة المطلقة، ولاتخضع لأية سلطة عليا، وهى تملك بموجب ما لها من سيادة أن تقيد ارادتها بنفسها، وهذا ما يحدث عندما تدخل فى علاقات مع غيرها من الدول . فخضوع الدولة للقانون الدولى العام مبناة اراداتها المنفردة .

ولقد لاقت نظرية التقيد الذاتى للارادة نقداً مريراً، ولأنه إذا كانت الدول تقيد اراداتها بنفسها، نتج عن ذلك حتماً امكان تحللها من الالتزامات والقيود التى قبلتها متى رأت ذلك . وفى هذا هدم لفكرة القانون الدولى . لأن القيد يوكل مفتاحه لنفس الشخص المقيد لا يعد قيداً .

وقد حاول يلنيك اسعاف نظريته بقول أن الدولة تجد من مصلحتها التقيد بقاعدة القانون الدولى العام، ولكن واقع الامور يثبت أن الدولة إذا شعرت أنها مطلقة التصرف فى الميدان الدولى، وجدت فى بعض الأحوال انه من المناسب لمصلحتها عدم التقيد بقاعدة ما من قواعد القانون الدولى .

ولا نزاع فى أن الدولة حينما تلتزم بقاعدة القانون الدولى لا تفعل ذلك باختيار المطلق، بل لأن ذلك الالتزام مفروض عليها ولا يملكنها التلل منه .

( ب ) مذهب الاادة المشتركة :

زعيم هذه المدرسة الفقية الالمانى تريبيل، الذى يأخذ بالمذهب الارادى ولكن على نحو جماعى . فلقد نشأت قواعد القانون الدولى فى نظره نتيجة للرضا العام أى لتوافق ارادات الدول ولاشتراكها فى انشاء تلك القواعد التى تعلو على الارادة النفردة لكل دولة .

على أننا إذا وضعنا هذا المذهب موضع التقدير وجدناه لا يبين، شأنه فى ذلك شأن المذهب السابق، الأساس الذى يمتنع بمقتضاه على دولة ما أن تتحلل من الآرادة الجماعية . كما أنه لا يفسر سبب التزام الدول التى تدخل فى الجماعة الدولية، بجميع قواعد القانون الدولى مع أنها لم تشترك باراته فى تكوينها .

ومما تقدم يتبين لنا قصور المدرسة الارادية فى مختلف صورها عن تفسير أساس الالتزام بقواعد القانون الدولى . فارادة الدولة لاتفسر كل شئ، والقاعدة القانونية حتى لو كانت قاعدة عرفية لا تعتبر ملزمة لمجرد أن الدول اتفقت على اتباعها . بل لانها تعلو على ارادة تلك الدول .

3-   المدرسة الواقعية أو مدرسة صراع القوى :

تقرر هذه المدرسة أن تمسك الدول بسيادتها وسعيها للحصول على القوة وللسيطرة على غيرها هو الطابع المميز للعلاقات الدولية فى الماضى والحاضر . وتتنافس الدول فيما بينها للحصول على أكبر جانب من القوة بعناصرها المختلفة من اقتصادية ومعنوية وعسكرية .

والواقع أن علاقات الدول ستظل دائماً عمليات قوة طالما أن الدول تستطيع أن تستخدم مالديها من قوة لتحقيق أهدافها والدفاع عن مصالحها بدون اعتداد بالمبادئ القانونية أو الاخلاقية . والقانون الدولى يعبر عن صراع القوى وتوازنها، وهو محدود الأهمية لان الدول تستطيع التلل منه متى وجدت لديها القوة اللازمة لفرض اراتها على الدول الاخرى .

4-   المدرسة القاعدية أو مدرسة القانون المجرد :

يقرر العالم النمساوى كلسن أن أساس صحة كل قاعدة قانونية يرجع إلى وجود قاعدة أخرى تقرها وتأمر باحترامها .

وعلى هذا لا يمكن اعتبار النظام القانونى نتيجة لارادة فرد أو شخص معنوى بل هو مجموعة من القواعد تعتمد كل قاعدة منها على قاعدة أعلى .

ويقرر كلسن أن القانون الدولى يعلو على القانون الداخلى، ويكون معه نظاماً واحداً من القواعد يأخذ شكلاً هرمياً تستمد فيه كل قاعدة قوتها من قاعدة أعلى .

ويقول كلسن انه يجب أن نصل بالضرورة إلى القاعدة الأولى التى تلزم الدول باحترام القانون الدولى  وهو هنا يلجا إلى الاقتراض شانة فى ذلك شأن الباحث فى العلوم الطبيعية – ويقول أن القاعدة الأولى يفترض أنها القاعدة العرفية التى تقرر أن العقد شريعة المتعاقدين .

ولقد استهوت نظرية كلسن ألباب الكثيرين لبساطتها، ولا تباعها طريقة البحث الرياضى المتبع فى العلوم الطبيعية، ولكن وجهت إليها مع ذلك انتقادات كثيرة . والواقع أنه لايمكن من الناحية التاريخية اثبات الافتراض الذى قامت عليه هذه النظرية، كما أنه لايمكن تفسير نشأة القاعدة الاولى التى تولت عنها قواعد القانون الدولى ، وعلى ذلك فهى نظرية تحكمية ولا يمكن قبولها . يضاف إلى ذلك أن الدولة ليست مجموعة من القواعد القانونية، بل هى مجموعة من المواطنين، ونحن نعتقد أن المجتمع الدولى أيضاً ليس مجموعة من القواعد القانوني بل هو مجموعة من الشعوب، فاذا اردنا البحث عن اساس الزام القاعدة القانونية وجب علينا الخروج من دائرة القانون المجرد. والاتجاه نحو المجتمعات البشرية وتحليلها لنصل إلى ارأى السليم .

وتقترب نظرية العالم النمسوى ( فردروس ) من نظرية كلسن وتمتاز عليها فى عدم ميلها إلى قبول الافتراضات . فاذا كان فردروس يجعل من قاعدة أن " العقيدة شريعة المتعاقدين " أساس القانون الدولى العام، الا أنه يفسر ذلك باعتبارات أخلاقية وأدبية، فهذه القاعدة تمثل فى نظره القيمة المطلقة وفكرة العالة .

5-   المدرسة الاحتماعية :

ينكر العالم الفرنسى ديجى فكرة سيادة الدولة التى يصفها بأنها حادث اجتماعى، قامت نتيجة الاجتماعى، ومهتها العمل على صون ذلك التضامن وتدعيمة، وكما ينشأ القانون الوطنى كنتيجة حتمية للتضامن الاجتماعى ينشأ القانون الدولى بنفس الطريقة، تعبير عن التضامن بين الشعوب التى تكون المجتمع الدولى، وهو ضرورى لصون ذلك التضامن وتدعيمه .

فديجى لا يتصور امكان الفصل بين القانون والمجتمع، فحيثما وجد مجتمع تنشأ القواعد القانونية، وهذه القواعد ليست عملاً من أعمال التجريد العقلى بل هو وليدة احتياجات ذلك المجتمع .

ولقد انتقد البعض نظرية ديجى لأنه رابطة التضامن الاجتماعى لاتكفى وحدها كأساس للقاعدة القانونية، فمن الملاحظ أنه فى بعض الفصائل الحيوانية توجد وحدات اجتماعية، فخلايا النحل مثلاً ترتبط كل خلية منها يرابطة قوية من التضامن، ولا يوجد ما يبرر القول أن هذه الرابطة الغريزية يتولد عنها حتماً نظام قانونى ما .

ولقد أحس ديجى بوجاهه هذا الانتقاد، فأضاف إلى رابطة التضامن فكرة الشعور العام بالتضامن وبالعدالة، وهى أفكار متصلة بطبيعة الانسان .

ولقد جاء العالم الفرنسى جورج سل وهو من مدرسة ديجى فعرض النظرية الاجتماعية بشكل جديد وعلى عناصر ايجابية لها أهميتها الكبرى .

فوفقاً لمذهب جورج سل يولد الحدث الاجتماعى- وهو مبنى على ضروريات الحياة فى المجتمع – شعوراً عاماً بضرورة تنظيم المجتمع على أساس هذه الضروريات، كما ينشئ سلطة تتشكل تدريجياً لتهيمن على سير المجتمع .

وينشأ النظام القانونى نتيجة اجتماع هذين العاملين : الشعور العام بالحاجة إلى قواعد قانونية، واستجابة السلطة لهذا الشعور . وهذه الظاهرة الحيوية ظاهرة عامة توجد فى المجتمع الوطنى، كما توجد فى المجتمع الدولى الذى لا يعتبر جورج سل مجتمعاً من دول أو هيئة من الملوك ورؤساء دول بل مجموعة من شعوب متضامنة .

ويتميز القانون الدولى فى نظر هذا الفقية بخصيصتين هامتين :

1-   تدرج القواعد القانونية :

تندرج القواعد القانونية بعضها فوق بعض، وتعلو قواعد القانون الدولى على قواعد القانون الوطنى، وينبنى على ذلك أن الدولة لا تتمتع بالسيادة، بل تباشر اختصاصاً يحدده القانون الدولى .

كما أن قواعد النظام الوطنى تحكم وتقيد قواعد الأنظمة الاقليمية والمحلية كأنظمة الولايات والأقاليم التى تدخل فى تكوين الدولة .

2-   ازدواج الوظيفة :

من الملاحظ فى المجتمع الدولى، أنه لايمكن القول دائماً بوجود سلطات مشرعة وقضائية ومنفذة، وينبنى على ذلك أن الوظائف الأساسية للمجتمع الدولى كثيرأ ما تباشر بواسطة الدول ذاتها .

وهكذا نجد أن السلطات الوطنية الخاصة بكل دولة تقوم بوظيفتين :

وظيفة وطنية وهى الوظيفة الطبيعية، ووظيفة دولية إذ تشترك هذه السلطات فى وضع القواعد الدولية وتطبيقها استجابة للشعور العام بحاجة المجتمع الدولى لهذه القواعد، ولاشك أن هذا نقص كبير يشوب تكوين المجتمع الدولى ويعرقل اطراد نمو القانون الدولى والمنظمات الدولية .

تقرير النظريات المتعلقة باساس القوة الالزامية للقانون الدولى :

إذا ما ألقينا نظرة شاملة على النظريات السابقة وجدنا أن كافة الآراء تدور حول الخلاف الآتى :

هل القاعدة القانونية الدولية قاعدة اتفاقية تنشئها الدول بارادتها، وأنه لا وجود لهذه القاعدة خارج نطاق ارادة الدول، أم هى قاعدة يتم فرضها على الدول بناْ على اعتبارات تعلو على ارادتها ؟

ونحن نعتقد أنه يجب للفصل فى هذا الخلاف أن نراعى الظروف الخاصة بالمجتمع الدولى، والتغيرات العميقة التى طرأت عليه فى السنين  الأخيرة، فالنظريات الوضعية الارادية ونظرية صراع القوى كانت تتناسب مع حالة المجتمع الدولى فى الماضى حينما كانت الدول تتمسك بسيادتها المطلقة، بحيث انحصرت وظيفة القانون الدولى فى التنسيق بين الارادات الوطنية .

أما فى الوقت الحال فلا نشك فى أن النظريات الموضوعية الاجتماعية تقدم أدق التفسيرات للواقع الدولى، لأنها تقرر حقيقة مقتضاها أن الحياة الانسانية أوجدت مجتمعاً دولياً يربط بين الشعوب على اختلاف أجناسها واديانها وعقائدها السياسية . وقد فرض الواقع الدولى المتجدد مجموعة من القواعد التى تحكم التعامل بين الدول، وهى قواعد تلزم الدول بحكم عضويتها فى المجتمع الدولى، وإذا انحرفت دولة ما عن هذه القواعد كان الجزاء اجتماعياً وهو صادر عن احساس الشعوب بأهمية هذه القواعد، احساساً يدفعهم إلى الدفاع عنها، وتحميل من يخرج عليها المسئولية الدولية .

ونضيف أن النظريات الاجتماعية هى التى تنسجم مع الاتجاهات الجديدة للقانون الدولى وبصفة خاصة تلك المتعلقة باقامة تنظيم دولى، ويمنع استخدام القوة فى ميدان العلاقات الدولية، وضمان حماية دولية لحقوق الانسان ولحقوق الشعوب، واقامة نظام اقتصادى دولى جديد، وحماية البيئة الانسانية . ولقد لعبت الدول الاسيوية والافريقية دوراً بارزاً فى تأكيد هذه الاتجاهات الجديدة للقانون الدولى داخل الأمم المتحدة وخارجها .

اتجاه القضاء الدولى :

يبدو التطور الذى أشرنا إليه واضحاً من مراجعة أحكام القضاء الدولى :

( أ ) قضية اللوتس : أكدت محكمة العدل الدولية الدائمة فى قضية اللوتس فى 9 سبتمبر سنة 1927 أن القانون الدولى يحكم العلاقات بين الدول المستقلة، وأن القواعد القانونية التى ترتبط بها الدول تنتج عن اراتها. وتظهر هذه الارادة أما فى الاتفاقات الدولية واما فى العرف المتبع بصفة عامة، وفى الحكم تأكيد للنظريات الارادية فى مجال القانون الدولى .

( ب ) اتجه القضاء بعد الحرب العالمية الثانية إلى القول بأن قواعد القانون تنشأ نتيجة لضروريات الحياة فى المجتمع الدولى وهى لاتستند فقط إلى ارادة الدول

وفيما يلى بعض السوابق القضائية التى تؤيد الاتجاه الجديد :

1-   محاكمات نورمبرج :

لما انتهت الحرب العالمية الثانية، وقعت الدول الأربع الكبرى ( الولايات المتحدة ، الاتحاد السوفيتى، والمملكة المتحدة، والصين ) اتفاق لندن سنة 1945 التى قرر انشاء محكمة عسكرية دولية عليا تختص بمحاكمة كبار مجرمى الحرب التابعين لألمانيا وايطاليا . واعتبر ميثاق لندن أن تدبير أو تحضير أو ابتداء حرب يعتبر جريمة دولية يعاقب عليها بالاعدام أو بأية عقوبة أخرى ترى المحكمة أنه من المناسب تطبيقها.

ولقد قامت محكمة نورمبرج بتطبيق ميثاق لندن على جرائم ارتكبت قبل ابرامه، وذكرت أن الميثاق لم ينشئ جريمة حرب الاعتداء أو الجرائم ضد السلام ولكنه كشف عنها فقط، وأن العرف الدولى أوجد هذه الجرائم منذ عهد عصبة الأمم سنة 1919 الذى اعتبر الحرب عملاً غير مشروع فى بعض الاحوال .

والواقع أن محكمة نورمبرج حققت عملاً انشائياً فى دائرة القانون الدولى لا يمكن تفسيره على ضوء النظريات الارادية؛ وذلك لأنها طبقت لاول مرة مبدأ المسئولية الجنائية لحكام الدول عن اعلان حرب الاعتداء، كما قررت أن يتم عقابهم بواسط محكمة دولية، ولا يمكن اسناد هذه المبادئ لعرف دولى مستقر، كما أن المعاهدات التى أشارت إليها المحكمة كانت لاتتعلق بالمسئولية الجنائية الدولية .

2-   رأى محكمة العدل الدولية فيما يتعلق بحق الامم المتحدة فى المطالبة بتعويض سنة 1949 :

يظهر الاتجاه الجديد كذلك فى الرأى الاستشارى الذى أصدرته محكمة العدل الدولية فى 11 أبرايل سنة 1949 بمناسبة الاستفسار عن حق الأمم المتحدة فى تقديم طلب تعويض إلى دولة ليست عضوا فى الهيئة .

فاذا ما أخذنا بالنظريات الارادية استحال الاعتراف للأمم المتحدة وهى هيئة كونتها مجموهة من الدول , بالحق فى ممارسة اختصاص ما فى مواجهة الدول التى لم تشترك فى انشائها, ومن باب أولى الدول التى لم تكن موجودة وقت انشائها .

ولكن المحكمة رأت أنه من الممكن, وفقا للقانون الدولى العام, لخمسين دولة, أى لأغلبية العائلة الدولية فى ذلك الوقت, انشاء هيئة لها كيان مستقل تباشر اختصاصاتها فى مواجهة كافة الدول, وليس فقط فى مواجهة الدول التى اشتركت فى تكوينها, كما قررت المحكمة أن الأمم المتحدة تتمتع بكافة السلطات اللازمة لمباشرة اختصاصاتها.

وظاهر من هذا أن النظريات الارادية لا تكفى وحدها لدعم المبادئ التى قررتها المحكمة.

ولكن ينبغى أن نلاحظ أيضا أن المحكمة لم تأخذ بالنظرية الاجتماعية على اطلاقها؛ لأنها اشترطت اعتراف مجموعة كبيرة من الدول بالقاعدة القانونية لامكان القول بالزامها .

3-   قضية المصايد سنة 1951 :

وتأكد هذا الاتجاه أيضا فى قضية المصايد بين المملكة المتحدة والنرويج سنة 1951. فقد ثار النزاع حول حق النرويج فى تحديد طريقة احتساب بحرها الاقليمى . ولما عرض النزاع على محكمة العدل الدولية قررت المحكمة " أن تحديد المساحات البحرية كان له على الدوام صفة دولية, ولايمكن أن يترك للارادة المطلقة للدولة الساحلية كما تظهر فى تشريعاتها . وإن كان المتبع أن تحديد اتساع البحر الاقليمة يتم بارادة دولة واحدة, فان نفاذ هذا التحديد فى مواجهة الدول الأخرى يتوقف على القانون الدولى العام ".

4-   قضية نوتنبوهم سنة 1955 :

كما تأكد التفسير غير الارادى للصفة الالزامية لقواعد القانون الدولى فى حكم محكمة العدل الدولية فى قضية نوتنبوهم . فقد أوردت المحكمة فى هذه القضية مبدأ هاما مقتضاه وجوب تقييد حرية الدولة فى مادة الجنسية, وقررت أنه لا يجوز لدولة ليشنشتين مباشرة حمايتها الدبلوماسية على المدعو نوتنبوهم الذى تعتبره من رعاياها, وذلك على اعتبار أن اكتساب المذكور لجنسية تلك الدولة لا يقوم على رابطة حقيقية, ومن ثم لا يجوز الاحتجاج بهذه الجنسية فى مواجهة الدول الأخرى .

5-   قضيتا المصايد سنة 1974 :

كما أيدت محكمة العدل الدولية هذا الاتجاه فى الحكمين الصادرين فى سنة 1974 فى النزاع بين كل من ايسلنده والمملكة المتحدة, وايسلنده وألمانيا الاتحادية بشأن الاختصاص الاقليمى فى المصايد . فقد قضت المحكمة أنه ليس من حق ايسلنده بارادتها المنفردة أن تمنع السفن التابعة للمملكة المتحدة ولألمانيا اتحادية من الصيد فى المناطق الواقعة فى حدود المصايد المتفق عليها فى عام 1961.

 

                                الفصل الثانى

                 العلاقة بين القانون الدولى والقانون الداخلى

تمهيد :

ازدادت أهمية تحديد العلاقة بين القانون الدولى العام وبين القانون الداخلى نتيجة لنمو العلاقات الدولية مما أدى إلى ارتباط الدول بعدد كبير من المعاهدات التى تنظم مسائل دستورية وادارية واقتصادية واجتماعية وفنية كانت تترك أصلا للقانون الداخلى .

ومن المتصور ان تحتوى المعاهدات على قواعد قانونية تخالف القواعد المنطبقة فى الأنظمة القانونية الداخلية للدول المشتركة فيها . هذا فضلا عن التزام الدول باحترام العرف الدولى وبتطبيقه .

وكل ذلك يؤدى إلى زيادة الاهتمام بالبحث فى العلاقة بين القواعد القانونية الدولية وبين قواعد القانون الداخلى .

 

                                    المبحث الأول

           الخلاف بين مذهب ثنائية القانون وبين مذهب وحدة القانون  

انقسم الفقهاء الذين تعرضوا لبحث العلاقة بين القانون الدولى والقانون الوطنى إلى مذهبين كبيرين يحاول كل منهما أن يجد له سندا فى العرف الدولى .

اولا – مذهب ثنائية القانون :

يستند هذا المذهب على النظريات الوضعية الارادية . وهو يقرر أن القانون الدولى العام يعتبر نظاما قانونيا مستقلا ومنفصلا عن القانون الوطنى, وأن قواعد القانون الدولى, لاتنفذ فى داخل الدولة الا اذا صدرت على هيئة تشريع داخلى .

ودافع عن هذا المذهب بصفة خاصة الفقهاء الألمان, تربييل, وشتروب والفقهاء الايطاليون أنزيلوتى, وكافيلجيرى .

1-   حجج مذهب ثنائية القانون :

(أ‌)          اختلاف مصادر القانون الوطنى عن مصادر القانون الدولى :

فالدولة تنشئ القانون الوطنى بارادتها المنفردة بينما تشترك مع الدول الأخرى فى انشاء القانون الدولى . ويترتب على ذلك أن مصادر القانون الوطنى كالتشريع والعرف الوطنى لها طابع داخلى, أما مصادر القانون الدولى كالمعاهدات والعرف الدولى فهى تعبر عن اتفاق صريح او ضمنى تم بين دول مختلفة .

(ب‌)     اختلاف موضوعات القانونين : فالقانون الوطنى ينظم علاقات الأفراد فيما بينهم أو مع السلطات العامة. وهذه العلاقات تختلف اختلافا كليا عن العلاقات التى تخضع للقانون الدولى العام وهى علاقات الدول ذات السيادة فيما بينها فى وقت السلم وفى وقت الحرب.

(جـ) اختلاف التكوين السياسى للمجتمعين الوطنى والدولى : للمجتمع الوطنى سلطات عليا منظمة تتمتع باختصاصات واضحة وهى السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية . وهذه السلطات العليا غير موجودة فى المجتمع الدولى .  

2-   النتائج المترتبة على مذهب الثنائية :

     يترتب على الأخذ بمدذهب ثنائية القانون ما يلى :

(أ‌)          انفصال القانون الوطنى عن القانون الدولى : تقوم الدول باصدار قانونها الوطنى بارادتها المستقلة, وعلى كل دولة أن تراعى عند قيامها بوضع أحكامها نظامها القانونى الوطنى احترام قواعد القانون الدولى . فان لم تفعل الدولة ذلك, كأن قامت باصدار قانون يخالف التزاماتها الدولية, أو صدر عن محاكمها حكم يخالف قاعدة دولية أو حكما قضائيا دوليا, فلا يترتب على بطلان القانون أو الحكم فى داخل الدولة . وتكون الدولة مسئولة دوليا فقط فى مواجهة الدول الأخرى . ويترتب على ذلك أن القاعدة القانونية قد تكون نافذة فى القانون الدولى وغير نافذة فى النظام الداخلى لاحدى الدول؛ وهو أمر متصور الحدوث – وفقا للعرف الدولى – رغم التزام الدولة بتعديل تشريعاتها بما يتفق والتزاماتها الدولية .

(ب‌)     عدم اختصاص المحاكم الوطنية بتطبيق القانون الدولى, تقوم المحاكم الوطنية بتطبيق وتفسير القانون الداخلى فقط, وهى لا تملك وفقا لهذا المذهب تطبيق القانون الدولى أو تفسيره .

ويترتب على ذلك أن تصبح العلاقة بين القانون الدولى وبين القانون الوطنى لدولة معينة مشابهة للعلاقة التى توجد بين أى نظامين منفصلين تمام الانفصال كالعلاقة بين القانون الايطالى والقانون الانجليزى مثلا .

على أن أنصار مذهب ثنائية القانون يقررون امكان نفاذ قواعد القانون الدولى فى الأنظمة القانونية الداخلية وذلك فى أحوال معينة وهى :

1-الاحالة :

ومعناها أن يحيل القانون الداخلى على القانون الدولى للحصول على القواعد التى تنظم مسألة معينة . ومثال ذلك أن يقرر القانون الوطنى تمتع المبعوثين الدبلوماسيين بالحصانات, ويترك للقانون الدولى تحديد من يصدق عليهم وصف المبعوثين الدبلوماسيين أو تحديد مضمون الحصانات الدبلوماسية .

3-   التحويل :

ومعناها تحويل قاعدة معينة من قواعد القانون الدولى إلى قاعدة داخلية وذلك عن طريق اصدارها على هيئة تشريع داخلى. ويذهب المتطرفون من أنصار مذهب الثنائية إلى أن التحويل شرط ضرورى لتطبيق المعاهدات وكذلك العرف الدولى فى داخل الدولة.

4-   الادماج :

ومقتضاه أن يحتوى الدستور الداخلى على نص يبيح بصفة عامة اعتبار القانون الدولى جزءا من القانون الوطنى, وفى هذه الحالة تطبق المحاكم الوطنية قواعد القانون الدولى على اعتبار أن المشرع الوطنى قد سمح بتطبيقها, ويقرر الفقهاء الذين يأخذون بفكرة الأدماج أن القواعد الدولية التى يتم ادماجها هى القواعد التى لا تتعارض مع قواعد التشريع الوطنى .

ثانيا – مذهب وحدة القانون :

تعرض مذهب ثنائية القانون لانتقادات كثيرة وجهها إليه أنصار نظرية القانون الطبيعى مثل ليفير وأنصار النظرية الاجتماعية كديجى وسل, وأصحاب المدرسة النمساوية ككلس وفردروس . وكل هذه النظريات والمدارس تأخذ بمذهب معارض هو وحدة القانون .

1- حجج مذهب وحدة القانون :

يقرر مذهب وحدة القانون أن قواعد القانون الوطنى وقواعد القانون الدولى تشترط فى تكوين نظام قانونى واحد متكامل . وانتقد أنصار مذهب وحدة القانون مذهب ثنائية القانون ؛ لأنه يعطى أهمية لخلافات فى الشكل والمظهر لا يمكن أن تغير من الطبيعة الواحدة للقواعد القانونية . كما دللوا على وحدة القانون بما يلى :

(أ‌)          وحدة مصادر القانون : اذا اختلفت مصادر القانون الدولى عن مصادر القانون الوطنى من حيث الشكل , وكانت للمعاهدات مثلا أشكال وأوضاع تختلف عما يشترط بالنسبة للقانون الوطنى, نجد أنه من الناحية الموضوعية تتشابه المعاهدات مع التشريعات الوطنية لأنها جميعا تنشئ قواعد عامة وملزمة تنظم المجتمع الانسانى .

فضلا عن أنه لا يمكن القول بأن اختلاف مصادر قانونين معينين يفيد بالضرورة انتماء كل قانون إلى نظام مختلف عن الآخر . فمن الممكن تصور وجود نظام قانونى واحد له عدة مصارد, وهذا هو الوضع الشائع فى الأنظمة القانونية المختلفة .

(ب‌)     الوحدة الموضوعية للقانون : ان الادعاء القائل باختلاف موضوع القانون الوطنى عن موضوع القانون الدولى غير سليم . فواقع الأمور أن كل قاعدة عبارة عن قاعدة يقصد بها تنظيم التصريفات البشرية . إذا كان يلوح لاول وهلة أن قاعدة القانون الدولى العام تنظم علاقات دول وأنه لاعلاقة لها بالأفراد , فان التعمق فى البحث يوضح عدم دقة هذا الرأى . فالدول مجموعات كبيرة من الأفراد, وينطبق القانون الوطنى على هؤلاء الأفراد مباشرة, أما القانون الدولى العام فينطبق عليهم بطريق غير مباشر, كما أن كافة تصرفات الدولة الداخلية والخارجية تنعكس آثارها على رعاياها سواء بالخير أو بالشر .

(جـ) عدم مشروعية مخافة القانون الدولى : ان الاستناد إلى ما يحدث فى ميدان العلاقات الدولية أحياناً من مخلفة التشريع الداخلى لقواعد القانون الدولى، لا يعتبر دليلاً على انفصال القانون الوطنى عن القانون الدولى؛ لأن الدولة التى تصدر تشريعاً يخالف قاعدة دولية ترتكب عملاً غير مشروع من وجهة نظر القانون الدولى، ويترتب على ذلك مسئوليتها أمام الدول الأخرى، وهذا ما يؤكد ضرورة احترام التشريع الداخلى لقواعد القانون الدولى والصلة الوثيقة بينهما .

ونضيف أخيراً أن نظرية وحدة القانون تنسجم مع الظروف الجديدة للمجتمح الدولى، ومع المبادئ التى تحكم العلاقات الدولية فى الوقت الحالى، فنظرية وحدة القانون تستطيع أن توضح مثلاً الوضع القانون 

للأقاليم الموضوعة تحت الوصاية وهى أقاليم يتحدد نظامها الداخلى بوجب اتفاقيات دولية، ويكون لسكانها حقوق مستمدة من القانون الدولى، كما يكون لهم اللجوء للأمم المتحدة، كما أن هذه النظرية تفسر كيف أن بعض الأفراد تحدد اختصاصاتهم وحالاتهم القانونية بمقتضى معاهدات دولية، ومثال ذلك تحديد الحالة القانونية للأمين العام للأمم المتحدة فى ميثاق سان فرنسسكو وامكانه الاحتجاج بهذه الحالة فى أى مكان، وتحديد نظام السلام التابعة للأمم المتحدة بموجب قرارات من تلك المنظمة واتفاقات دولية .

ولا شك أنه فى مثل هذه الأحوال تتضح ضرورة الاعتراف بأن النظام القانونى بكافة قواعد الداخلية والدولية يكون وحدة متكاملة .

3-   النتائج المترتبة على مذهب الوحدة :

( أ ) تلتزم المحاكم الوطنية باحترام وتطبيق قواعد القانون الدولى، كما أنها تملك تفسير هذه القواعد، كما تلتزم كافة السلطات الوطنية والافراد باحترام قواعد القانون الدولى .

( ب ) من الممكن حصول تعارض بين قواعد القانون الوطنى وبين قواعد القانون الدولى؛ وذلك لأن قواعد القانون الدولى تعتبر جزء لا يتجزأ من النظام القانونى، لكل دولة. ويترتب على ذلك فى الرأى الراجح ضرورة تغليب قواعد القانون الدولى على ما يعارضعها من قواعد القانون الداخلى؛ لأن القواعد الدولية تعلو على القواعد الداخلية .

وعلى الرغم من سلامة الاسس التى يقوم عليها مذهب وحدة القانون فلقد استمر جانب من الفقة يعارض هذا المذهب ويقرر أنه مذهب خيالى لا يؤيده العرف المستقر . فالدول أقدم من القانون الدولى والقانون الوطنى سبق فى نشأته القانون الدولى، ولقد نشأت قواعد القانون الدولى مستقلة ومنفصلة عن الأنظمة القانونية للدول المختلفة .

 ولا يحتوى العرف الدولى على قاعدة تقرر أن قواعد القانون الدولى تعدل مباشرة وبطريقة أوتوماتيكية ما يخالفها من تشريعات داخلية .

 

                                       ** المبحث الثانى **

                                 الخلاف بين مذهب سيادة القانون الوطنى

                                     وبين مذهب سيادة القانون الدولى

اولاً : مذهب سيادة القانون الوطنى :

ذهب البعض إلى أنه فى حالة التعارض بين قواعد القانون الوطنى وقواعد القانون الدولى، تكون الغلبة لقواعد القانون الوطنى، والسبب فى ذلك أن الدول تتمتع بالسيادة ولا تخضع لسلطة عليا، ونفاذ القانون الداخلى ضرورة لكفالة احترام سيادة الدول واستقلالها .

ويضيف أنصار هذا الرأى أن الدستور هو الذى يعطى رئيس الدولة والبرلمان ما لهم من اختصاص فى ميدان العلاقات الدولية، وأن القانون الدولى ينشأ نتيجة مباشرة هذه الاختصاصات، ومن ثم فان الأولوية تكون للقانون الدستورى أى للقانون الداخلى .

ثانياً : مذهب سيادة القانون الدولى :

ان مذهب سيادة القانون الوطنى لا يمكن قبوله لأنه يهدم القانون الدولى من أساسه ويجعله عديم القيمة، كما يترتب عليه منطقياً أن الدول تستطيع أن تتحلل متى شاءت من قواعد القانون الدولى العام، وذلك يتنافى مع الالتزام المفروض على الدول باحترام القانون الدولى العام .

والنطق القانون يحتم علينا أن نرتب على خضوع الدولة للقانون الدولى العام سيادة قواعد هذا القانون على القواعد القانونية الوطنية، بمعنى أن يكون اختصاص الدولة مقيداً بقواعد القانون الدولى العام، وأن تكون القواعد القانونية الدولية هى الاساسية واجبة الاحترام .

 ولاشك أن سيادة القانون الدولى العام، هى النظرية التى يؤيدها الفقه الدولى الحديث وتتفق مع العرف الدولى، ومع الاتجاه إلى تقوية القانون الدولى ودعم سلطات المنظمات الدولية .

القضاء الدولى يؤكد وحدة القانون مع سيادة القانون الدولى :

يخلص من مراجعة أحكام القضاء الدولى أنها تؤكد العرف الدولى يعترف بوحدة القانون مع سيادة القانون الدولى وذلك على النحو الآتى :

1- قاعدة القانون الدولى تعلو على قاعدة القانون الداخلى :ففى قضية الألباما بين انجلترا والولايات المتحدة الامريكية التى فصلت فيها فى 14سبتمبر سنة 1871 محكمة تحكيم دولية انعقدت فى جنيف احتج الامريكيون بأن نقص القوانين الانجليزية لا يعفى السلطات الانجليزية من الالتزام باتباع العرف الدولى الثابت والخاص بواجبات المحايدين . ولقد أخذت المحكمة بهذا الرأى وادانت انجلترا .

كما قررت محكمة لاهاى الدائمة للتحكيم فى النزاع بين الولايات المتحدة الأمريكية والنرويج الخاص بشركة الملاحة النرويجية، أن القانون الوطنى لايطبق إذا كان يتعارض مع القانون الدولى .

وأكدت محكمة العدل الدولية الدائمة فى أكثر من قضية سيادة القانون الدولى العام . ويكفينا أن نشير إلى الحكم رقم 7 الصادر فى 25مايو سنة 1926 الخاص " ببعض المصالح الألمانية فى سيليزيا العليا البولونية " الذى قررت فيه المحكمة سيادة المعاهدات على القوانين الوطنية، وذكرت " أنه من ناحية القانون الدولى العام – الذى تقوم المحكمة بتطبيقة – يعد القانون الداخلى مجرد اظهار لارادة الدولة أو نشاطها " .

كما بينت المحكمة المذكورة فى قرارها الصادر فى 8ديسمبر 1930الخاص بالمناطق الحرة، أن فرنسا لايمكنها أن تستند إلى تشريعها الوطنى لكى تقيد من نطاق التزاماتها الدولية .

كما أن محكمة العدل الدولية الملحقة بالأمم المتحدة أكدت فى أحكامها سيادة القانون الدولى . ومن هذه الاحكام ما صدر فى قضية المصايد سنة 1951، وفى قضية حقوق رعايا الولايات المتحدة فى مراكش سنة 1952، وفى قضية نوتنبوهم سنة 1955.

كما أكدت المحكمة فى قضية حضانة الأطفال ستة 1958ضرورة احترام التشريع الداخلى للاتفاقات الدولية. ولقد بينت بعض الآراء الفردية الصادرة فى نفس القضية أن القانون الدولى يعلو على القانون الداخلى حتى فى حالة تعلق الأخير بالنظام العام وهذا رأى سليم وذلك على اعتبار أن فكرة النظام العام تحدث أثرها فى نطاق استبعاد تطبيق قانون أجنبى ولا يمكنها استبعاد تطبيق القانون الدولى الذى يعلو فى أهميتة على القوانين الداخلية لكافة الدول .

2- قاعدة القانون الدول العام تعلو على الدستور الداخلى : ولقد أخذت محكمة العدل الدولية الدائمة بهذا المبدأ بمناسبة الرأى الصادر فى 2فبراير سنة 1932، بخصوص معاملة المواطنين البولونيين والأشخاص الآخرين الذين هم من أصل بولونى أو الذين يتكلمون بولونية والذين يقيمون فى أرض دتزج الحرة .

فلقد أدى تطبيق دستور دتتزج، إلى انتهاك الالتزامات الدولية المفروضة على هذه المدينة الحرة فى مواجهة بولونية، وذكرت المحكمة أن الدولة لايمكنها أن تحتج بنصوص دستورها لكى تتخلص من الالتزامات المفروضة عليها فى مواجهة دولة أخرى بمقتضى قواعد العرف الدولى أو المعاهدات السارية .

3- المحاكم الدولية تعلو على المحاكم الوطنية : قد تفصل محكمة داخلية فى منازعات خاصة بالأجانب الذين أصيبوا بأضرار ناتجة عن أعمال تلك الدولة، فاذا عرضت هذه المنازعات فيما بعد على محاكم دولية فانها لا تتقيد – وفقاً للجارى عليه العمل – بأحكام المحاكم الوطنية .

 

                                 ** المبحث الثالث **

             المشكلات المتعلقة بعلاقات القانون الدولى بالقانون الداخلى

تثير العلاقة بين القانون الدولى والقانون الداخلى لكل دولة مجموعة من المشكلات العملية.

معيار توزيع الاختصاص بين القانونين :

ومن المهم أن نحدد بدقة العلاقات التى ينظمها كل من القانونين، فالقانون الداخلى ينظم علاقات الأفراد فيما بينهم أو مع السلطات العامة، أما القانون الدولى فينظم علاقات الدول فيما بينها .

وتبدو هذه التفرقة فى أحكام القضاء الدولى، فمثلاً فى قضية تتعلق بشروط خدمة دين عقدته دولة الصرب، وكانت غالبية حملة سنداته من الفرنسين، قررت محكمة العدل الدولية الدائمة أن هذا النزاع له موضوع وأحد يتعلق بوجود ومدى الالتزام الذى عقدته دولة الصرب مع حملة سندات قروضها فهو ينحصر فى علاقات من نوع ما يدخل فى نطاق القانون الداخلى .

ولكن هذا المعيار يصعب تطبيقه فى الوقت الحالى، نتيجة للتغيرات العميقة التى أصابت كيان المجتمع الدولى مما ظهر أثره فى تشعب وتعدد القواعد القانونية التى تحكم ذلك المجتمع فقد ظهرت مجموعة من القواعد الدولية لحكم علاقات كان من الفهوم أنها من نوع ما يدخل فى نطاق القانون الداخلى كالقواعد الخاصة بحماية الانسان وهى تفرض التزامات لصلح الفرد فى مواجهة الدول، والقواعد الخاصة بالأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتى، وهى تفرض التزامات لصالح تلك الاقاليم فى مواجهة الدول التى تمارس السيادة عليها .

على أن هذا التطور لا ينفى أنه لايزال من المقرر أن هناك مسائل معينة تترك للاختصاص الداخلى لكل دولة .

المسائل المتعلقة بالاختصاص الداخلى للدولة :

( أ ) الفقة التقليدى :

أن فكرة وجود مسائل معينة تتصل بالاختصاص المطلق للدولة من الأفكار التقليدية للقانون الدولى . ومؤدى تلك الفكرة انه من الضرورى أن يصان للدولة مقدار من النشاط لا يستطيع القانون الدولى العام أن يتدخل فيه فيتأكد بذلك استقلالها وتحترم سيادتها .

ولقد ثار النزاع منذ زمن طويل حول تحديد دائرة النشاط المحفوظ لمطلق تصرف الدول . واول ما أدخله الفقهاء فى هذه الدائرة المسائل المتعلقة بالشرف وبالمصالح الأساسية للدولة التى جرى العرف الدولى على اخراجها من نطاق الالتزام باللجوء إلى التحكيم الاجبارى، إذا كان هناك التزام فى هذا الشأن نتيجة لمعاهدة دولية .

 وحدد بوليتس الاختصاص المطلق فأدخل فيه المسائل المتعلقة بالهجرة، والتعريفة الجمركية، بالاسواق الاقتصادية، وتوزيع المواد الاولية وكذلك المسائل التى لا يوجد بشأنها نص فى القانون الدولى العام .

وأدخل البعض فى هذا النطاق كل المشاكل ذات الطبيعة السياسية. أما البعض الآخر فقال أن جميع المسائل المتعلقة بأركان الدولة : اقليم، سكان، حكومة تدخل فى النطاق المحفوظ لكل دولة .

وقد اكدت المادة 52من اتفاقية لاهاى الأولى لسنة 1907 أن لكل دولة طرف فى نزاع الحق فى اعلان أن النزاع لا يدخل فى الطائفة التى تخضع للتحكيم الاجبارى لتعلقة باختصاص المطلق .

( ب ) عهد عصبة الأمم :

نصت المادة 15فقرة 8من عهد عصبة الأمم، وهى الخاصة بواساطة . مجلس عصبة الأمم فى المنازعات بين الدول الاعضاء، على انه إذا دفعت دول ما بعدم اختصاص المجلس بناء على أن النزاع المطروح أمامه يتعلق بأمر يدخل بحسب قواعد القانون الدولى العام فى اختصاصها المطلق وأقر المجلس هذا الدفع، فانه فى هذه الحالة لايجوز تقديم أية توصية .

ومن المعلوم أن هذا النص أضيف بناء على طلب الرئيس ويلسون حتى يضمن موافقة مجلي النواب الأمريكى على عهد عصبة الأمم، ومن الواضح أنه لم يحدد المقصود بعبارة الاختصاص المطلق . ولقد قامت محكمت العدل الدولية الدائمة بتفسيرها فى رأيها الخاص بمراسيم الجنسية فى تونس ومراكش الذى صدر فى 7 فبراير سنة 1923 بمناسبة نزاع قام بين انجلترا وفرنسا بخصوص حق الدولة الأخرة فى فرض الجنسية على أشخاص مقيمين فى تونس ومراكش . وذكرت المحكمة فى رأيها أن عبارة أمور تدخل بحسب قواعد القانون الدولى العام فى الاختصاص المطلق لأحدى الدول الأطراف فى النزاع – تفسير تفسيراً نسبياً وأنه يقصد بها المسائل التى وان كانت تهم أكثر من دولة واحدة الا أن قواعد القانون الدولى العام لا تنظمها، وانه لذلك يتوقف اعتبار مسألة ما ضمن الاختصاص المطلق لدولة من الدول على مدى تطور العلاقات الدولية .

الاختصاص الداخلى فى ميثاق الأمم المتحدة :

تنص المادة 2 فقرة 7من ميثاق الأمم المتحدة على أنه " ليس فى هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل فى الشئون التى تعد من صميم الاختصاص الداخلى لدولة ما، وليس فيه ما يقتضى الأعضاء أن يعرضوا هذه المسائل لكى تحل بحكم هذا الميثاق، على أن هذا المبدأ لا يخل بتطبيق تدابير القمع الواردة فى الفصل السابع " .

ويلوح من مقارنة هذا النص مع نص المادة 15فقرة 8من عهد عصبة الأمم ثلاثة أمور

1- ان ميثاق الأمم المتحدة يستعمل اصطلاحاً جديداً فهو لم يتحدث عن اختصاص مطلق بل عن مسائل تتعلق بصميم الاختصاص الداخلى للدولة .

2- كان نص عصبة الأمم خاصا بدفع يبدى بمناسبة نزاع معروض على مجلس العصبة فى حين أن النص الجديد أكثر عمومية, ويمكن تفسيره على أنه يجيز التمسك بكون المسألة تتعلق بصميم الاختصاص الداخلى للدولة لمنع أى تدخل من جانب الأمم المتحدة مهما كان مصدر التدخل أو طريقته, ولو لم يكن الامر متعلقا بنزاع معروض على مجلس الامن أو الجمعية العامة .

3- أتى ميثاق الأمم المتحدة بقيد هام على استعمال الدفع المسألة بصميم الاختصاص الداخلى للدولة اذ تنص المادة 2/7 على أن هذا الدفع لا يخل بتطبيق تدابير القمع الواردة فى الباب السابع من الميثاق, والتى يباشرها مجلس الأمن فى حالات الاخلال بالسلم أو وقوع العدوان .

4- زادت الصعوبات المتعلقة بتفسير المادة الثانية فقرة 7 من ميثاق الامم المتحدة, نتيجة لما ورد فى الفصلين السابع والثامن من الميثاق خاصا بوظائف الأمم المتحدة فى الميدان الاقتصادى والاجتماعى, وما ورد فى الفصل الحادى عشر من الميثاق من نصوص تتعلق بالاقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتى ( المستعمرات) وبالالتزامات المتعلقة بادارة هذه الأقاليم .

فقد نصت المادة الخامسة والخمسون على ان تعمل الامم المتحدة على تحقيق ما يأتى :

(أ‌)          تحقيق مستوى أعلى للمعيشة وتوفير أسليب الاستخدام المتصل لكل فرد والنهوض بعوامل التطور والتقدم الاقتصادى والاجتماعى .

(ب‌)     تيسير الحلول للمشاكل الدولية الاقتصادية والاجتماعية والصحية وما يتصل بها, وتعزيز التعاون الدولى فى أمور الثقافة والتعليم .

(جـ) أن يشيع فى العالم احترام حقوق الانسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين , ولا تفريق بين الرجال والنساء ومراعاة تلك الحقوق والحريات .

كما نصت المادة الثانية والستون على أن يقوم المجلس الاقتصادى والاجتماعى بدراسات ويضع تقارير عن المسائل الدولية فى أمور الاقتصاد والاجتماع والثقافة والتعليم والصحة وما يتصل بها كما أن له أن يوجه مثل هذه الدراسات إلى وضع مثل هذه التقارير، وله أن يقدم توصيات فى أيةمسألة من تلك المسائل إلى الجمعية العامة وإلى أعضاء الأمم المتحدة وإلى الوكالات المختصة ذات الشأن . كما يقدم المجلس توصيات فيما يختص باحترام حقوق الانسان والحريات الاساسية .

كما قررت المادة 73 أن أعضاء الأمم المتحدة الذين يضطلعون بادارة أقاليم لم تنل شعوبها قسطاً كاملاً من الحكم الذاتى يعترفون بالمبدأ الذى يقضى بأن مصالح سكان هذه الاقاليم لها المقام الأول، كما حدوت المادة 74 الغرض من مباشرة السلطة على المستعمرات.

ويبدو جلياً أنه من اللازم لمباشرة الأمم المتحدة للوظائف الواردة فيما تقدم أن تتدخل فى شئون جرت العادة فى الماضى على اعتبارها من صميم الاختصاص الداخلى للدولة، مما يؤكد أن نطاق الاختصاص الداخلى لكل دولة يتوقف على مدى نمو القانون الدولى، وعلى نطاق الالتزامات الدولية التى تتحملها .

لقد أثيرت مشكلة الاختصاص الداخلى أمام محكمة العدل الدولية فى قضية البترول الايرانى، كما بحثتها الأجهزة السياسية للأمم المتحدة .

1- قضية شركة البترول الانجليزية الايرانية :

فى 29أبريل سنة 1933 أبرم اتفاق بين الحكومة الايرانية وبين شركة البترول الانجليزية الايرانية – وهى شركة مسجلة فى المملكة المتحدة – موضوعه استغلال الشركة المذكورة للبترول الايرانى .

وفى مارس سنة 1951 وافق مجلس النواب الايرانى ومجلس الشيوخ على قانون بتأميم صناعة البترول فى اريران . كما صدر قانون آخر فى 15 ابريل سنة 1951 يتضمن اجراءات تنفيذ قانون التأميم .

ونشأ عن تنفيذ القانون خلاف بين الحكومة الايرانية وشركة البترول الانجليزية الايرانية . وقد تولت الحكومة الانجليزية الدفاع عن مصالح الشركة الانجليزية بناء على حقها فى الحماية الدبلوماسية. ولجأت الحكومة الانجليزية فى 26مايو سنة 1951 إلى عرض هذا النزاع على محكمة العدل الدولية . يبد أن ايران دفعت بعدم اختصاص المحكمة لعدة أسباب من بينها أن هذا النزاع لا يدخل فى دائرة النازعات التى قبلت فيها ايران الولاية الالزامية لمحكمة العدل الدولية بمقتضى التصريح الذى صدقت عليه ايران فى 19 سبتمبر سنة1932 . فضلاً عن أنه يتعلق بمسألة تدخل فى نطاق سلطان ايران الداخلى .

وقد أصدرت المحكمة – قبل أن تبت فى مسألة اختصاصها – قراراً فى 5يونيو سنة 1951يتضمن اجراءات وقتية الغرض منها بقاء الأموء على ماهى عليه ومنع طرفى النزاع من اتيان أى عمل يؤدى إلى وقف الاستغلال أو إلى تفاقم النزاع .

ولقد عادت محكمة العدل الدولية فأصدرت فى 22يولية سنة 1952 حكماً بعدم اختصاصها بنظر النزاع . وبنت هذا الحكم على أن ولاية المحكمة الالزامية مبناها التصريحات التى صدرت من كل من ايران والمملكة المتحدة بقبول هذه الولاية، وأن قبول ايران لاختصاص المحكمة الالزامى قاصر على المنازعات التى تتعلق بتنفيذ معاهدة أو اتفاقية دولية تعقدها ايران بعد تاريخ التصريح؛ ومن ثم فلا اختصاص للمحكمة بالنسبة للنزاع الايرانى الانجليزى الذى لم ينشأ عن تنفيذ معاهدة عقدت بين الدولتين بعد تاريخ التصريح؛ لان الاتفاق الذى عقد فى 1923 بين الحكومة الايرانية وبين الشركة الانجليزية لا يمكن اعتبارة معاهدة دولية .  

ولم تجد المحكمة حاجة لبحث الدفع الخاص بتعلق مسألة التأميم بصميم الاختصاص الداخلى الايرانى :

2- تفسير المادة2فقرة 7أمام الفروع السياسية للأمم المتحدة :

يدل عرف الأمم المتحدة منذ قيامها على انكماش كبير للموضوعات التى تتصل بالاختصاص الداخلى للدول الاعضاء . فالثابت أن الأمم المتحدة قد أكدت اختصاصها فى مناقشة المسائل التى تدخل فى حدود ميثاقها, ولقد جرت عادة الجمعية العامة ومجلس الأمن على استبعاد الدفع بتعلق المسألة بصميم الاختصاص الداخلى للدولة كلما تعلق الامر بمباشرة أى من الاختصاصات الممنوحة لها فى الميثاق وذلك حتى فى غير أحوال الاخلال بالسلم الدولى .

فقد ناقشت الجمعية الأمم المتحدة فى عديد من دوراتها مسائل كتلك التى تتعلق بنظام الحكم فى اسبانيا, وباستيلاء الحزب الشيوعى على الحكم فى تشيكوسلوفاكيا, وبالتمييز العنصرى فى جنوب افريقيا, وبوضع تونس ومراكش حينما كانتا تحت الحماية الفرنسية . كما قد أدرجت الجمعية العامة فى جدول أعمالها فى دورتها العاشرة عام 1955 مسألة الجزائر رغم ادعاء فرنسا بأن نصوص الدستور الفرنسى كانت تجعل من الجزائر جزءا من الاقاليم الفرنسى . وأدرجت الجمعية العامة فى سنة 1956 فى جدول أعمالها مشكلة المجر رغم ما قررته الحكومة المجرية من أن الثورة المجرية مسألة داخلية . كما بحثت الجمعية العامة ابتداء من سنة 1960 الاوضاع الداخلية فى الكونجو, وفى أنجولا وفى موزمبيق وفى غينيا بيساو وفى روديسيا وفى ناميبيا وفى قبرص .

ونصت المادة 13 من اعلان حقوق الدول وواجباتها الذى أقرته لجنة القانون الدولى التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة فى 9 يوليو سنة 1949 على أنه لا يجوز للدولة أن تستند على دستورها أو تشريعها الداخلى لكى تتحلل من الالتزامات المفروضة عليها بموجب المعاهدة أو مصادر القانون الدولى الأخرى .

وكذلك بحث مجلس الامن فى دوراته المتعاقبة مشكلة التمييز العنصرى فى جنوب افريقيا, كما بحث منذ سنة 1960 الأوضاع الداخلية فى الكونجو, وأنجولا وموزمبيق وغينيا بساو وروديسيا وناميبيا وقبرص . 

ولقد سببت ممارسة الأمم المتحدة لاختصاصها فى هذه الميادين فزعا لكثير من الدول التى تخشى رقابة الامم المتحدة على تصرفاتها الداخلية .

 

تطبيق قواعد القانون الدولى فى داخل الدولة :

سوف نبحث فيما يلى الحلول التى أخذت بها الدول المختلفة بالنسبة لتطبيق العرف الدولى والمعاهدات فى داخل اقليمها .

وهذه مشكلة عامة جرت عادة الشراح على التعبير عنها باصطلاح استقبال القانون الداخلى للقانون الدولى .

 

تطبيق العرف الدولى فى اقليم الدولة :

تحترم انجلترا قاعدة قديمة مقتضاها أن " العرف الدولى جزء من القانون الانجليزى" . وهكذا فكما تلتزم المحاكم الانجليزية بتطبيق القانون الانجليزى, فهى تلتزم أيضا بتطبيق العرف الدولى. ولا يعتبر العرف الدولى من قبيل القانون الأجنبى الذى يجب اثباته بل تلتزم المحاكم بتطبيقه من تلقاء نفسها .

ولقد احترمت هذه القاعدة الولايات المتحدة الأمريكية ودول الكومنولث البريطانى, كما أخذت بها محاكم كثير من الدول ذات الانظمة اللاتينية, فقامت المحاكم الفرنسية مثلا, بتطبيق العرف الدولى . فقد طبقت محكمة النقض الفرنسية مثلا القاعدة الخاصة ببطلان المعاهدات اذا نشبت حرب بين أطرافها, وكان ذلك بمناسبة قضية عرضت عليها بعد الحرب العالمية الأخيرة واستند فيها إلى معاهدة كانت مبرمة بين ايطاليا وفرنسا . ورفضت المحكمة تطبيق تلك المعاهدات قائلة أن العرف الدولى يقرر بطلان تلك المعاهدات نتيجة لنشوب حالة الحرب بين ايطاليا وفرنسا سنة 1940, كما اعترفت المحاكم الايطالية والدستورية الايطالى بنفس القاعدة . وأخذ بها دستور ألمانيا الاتحادية 1949 الذى نص كذلك على أن لقواعد القانون الدولى الاولوية على قواعد القانون الداخلى , ومنح الدستور القاضى الوطنى سلطة الامتناع عن تطبيق القوانين الداخلية المخالفة للقانون الدولى .

ويمكن القول ان العرف الدولى يطبق عادة فى الدول المختلفة كجزء من القانون الوطنى .

ولقد طبقت المحاكم المصرية العرف الدولى, كما طبق مجلس الغنائم المصرى العرف الدولى  بصورة مطردة, بل ورفض تطبيق أوامر الحاكم العسكرى المخالفة .   

ولقد نص القانون رقم 22 سنة 1950 الخاص بانشاء مجلس الغنائم المصرى على أن يطبق المجلس فى دعاوى الغنائم قواعد القانون الدولى العام وهذا طبعا بدون تمييز بين ما اذا كان مصدرها معاهدة أو عرفا . 

 

تطبيق المعاهدات الدولية فى اقليم الدولة :

يحتوى التشريع الوطنى عادة على نصوص تحدد كيفية وشروط تطبيق المعاهدات فى اقليم الدولة .

ويثور البحث حول اذا كان يشترط لكى تصبح المعاهدة نافذة فى داخل الدولة وملزمة للسلطات الوطنية والرعايا أن يصدر بها قانون داخلى , أم أنه يكفى لسريان المعاهدة فى اقليم الدولة أن يكون قد تم ابرامها بطريقة سليمة روعيت فيها كافة الأوضاع التى يتطلبها القانون الدولى, فضلا عن الاوضاع التى يتطلبها دستور الدولة ؟

ولقد سبق أن عرضنا للخلافات الفقهية فى هذا الشأن وذكرنا أن أنصار مذهب ثنائية القانون يشترطون لنفاذ المعاهدة فى الداخل أن تصدر على هيئة تشريع داخلى, أما أنصار مذهب الوحدة فيقررون أن المعاهدة الصحيحة النافذة التى تم ابرامها بطريقة سليمة وفقا لأحكام القانون الدولى ولأحكام القانون الداخلى تسرى فى الميدان الداخلى دون حاجة لاصدارها على هيئة تشريع . وسنعرض فيما يلى للحلول التى تأخذ بها الدول المختلفة .

 

(أ‌)          الولايات المتحدة :

تنص المادة السادسة من الدستور الأمريكى على أن " الدستور والقوانين الصادرة طبيقا له, وجميع المعاهدات التى أبرمتها أو ستبرمها الولايات المتحدة تعتبر القانون الأعلى لهذه الدولة " . ومعنى هذا أن المعاهدات المصدق عليها تكون لها قوة القانون بحيث تعدل أو تلغى التشريعات السابقة عليها اذا ما تعارضت نمعها .

ويخلص من هذا المعاهدات التى تصدق عليها الولايات المتحدة تعتبر تلقائيا جزءا من النظام القانونى للولايات المتحدة .

 

(ب‌)     المملكة المتحدة :

يتولى الملك وفقا للقانون الدستورى الانجليزى التصديق على المعاهدات .

ولقد استقر العرف فى تلك البلاد على أنه كانت المعاهدة تمس الحقوق الخاصة بالأفراد, أو كانت تحتوى على نصوص تخالف التشريع الانجليزى, فانه من اللازم فى مثل هذه الاحوال أن يوافق البرلمان على نصوص المعاهدة قبل التصديق عليها, وتصدر الموافقة على صورة قانون أو قرار يبيح تعديل التشريع بما يتفق مع نصوص المعاهدة .

ومعنى هذا أنه خلافا للوضع المقرر فى الولايات المتحدة, لا تعتبر المعاهدات جزءا من النظام القانونى, ولا تلغى المعاهدات بمجرد ابرامها القوانين المخالفة لها .

 

(جـ) فرنسا :

تقرر المادة 58من الدستور الفرنسيى سنة 1958 أن المعاهدات والاتفاقات المصدق عليها بصفة قانونية والمنشورة تكون لها قوة أعلى من القانون, بشرط أن يقوم الطرف الآخر بتطبيق المعاهدات أو الاتفاق . والتصديق على المعاهدات, يختص به رئيس الجمهورية, ولكن يشترط الدستور فى كثير من الاحوال موافقة البرلمان على المعاهدة قبل التصديق عليها . وعندما تنتهى اجراءات التصديق على المعاهدة ويتم نشرها فى فرنسا, فان ما يخالف نصوص تلك المعاهدة من قرانين فرنسية يلغى او يعدل بطريقة ضمنية .

ويلتزم القاضى الفرنسى بالتأكيد من احترام طرف المعاهدة الآخر لاحكامها .

 

( د ) ايطاليا :

نصت المادة العاشرة من الدستور الايطالى 1948 عن أن " النظام القانونى الايطالى يخضع لقواعد القانون الدولى المعترف بها بصفة عامة " . ويترتب على هذا النص ادماج قواعد القانون الدولى المقبولة من ايطاليا ضمن قواعد النظام القانونى الايطالى . ولقد اختلفت الآراء فى ايطاليا حول تفسير نص المادة العاشرة بالنسبة للنفاذ الداخلى للمعاهدات . فقد قررت محكمة النقض الايطالية فى سنة 1950 أن المادة 10 لم تغير الوضع الذى كان سائدا قبل سنة 1948 والذى كان يشترط لنفاذ المعاهدة اصدارها على هيئة تشريع داخلى . على أن الرأى الراجح فى الفقة الايطالى يذهب إلى أن المعاهدات يجب أن تعتبر بعد ابرامها جزءا من النظام القانونى الايطالى, لأن قاعدة أن العقد شريعة المتعاقدين تعتبر من قواعد القانون الدولى المعترف بها بصفة عامة . 

 

(هـ) ألمانيا الاتحادية :

تنص المادة 57 من دستور ألمانيا الاتحادية 1949 على أن الاتفاقيات الدولية التى تكون بطبيعتها ووفقا للغرض منها واجبة الاندماج فى القانون الداخلى تكون نافذة من تاريخ موافقة البرلمان عليها. ويلاحظ أن المادة 25 من الدستور المذكور جعلت لقواعد القانون الدولى الاولوية على قواعد القانون الداخلى .

 

(ز) الاتحاد السوفيتى ودول أوربا الشرقية : 

يأخذ الاتحاد السوفيتى ودول اوربا الشرقية بقاعدة مقتضاها أن معاهدة التى تم التصديق عليها تنشئ التزامات مباشرة على الدول الأطراف فيها ولا تلزم المعاهدة الافراد فى داخل الدولة بما فيهم الموظفين الوطنيون .

على أنه من المقرر فى الاتحاد السوفيتى وفى دول أوربا الشرقية أن المعاهدة تنفذ فى الداخل إذا ما تم نشرها بموجب قرار من السلطة التنفيذية، ويكون لها من القوة التنفيذية بقدرما للقرار الذى أمر بنشرها .

ولقد قام البحث حول الحكم فى حالة وجود تعارض بين معاهدة منشورة وبين أحكام القانون الداخلى . ولقد قرر بعض العلماء أن مثل هذا التعارض غير متصور فى الانظمة الاشتراكية لوجود سلطة سياسية واحدة تضع القانون الداخلى وتقبل الالتزامات الدولية . ويسلم آخرون بامكانية وجود التعارض، وان اختلفوا فيها بينهم حول طريقة حل هذا التعارض . فلقد رأى البعض ضرورة احترام القانون الداخلى مع تحمل الدولة المسئولية الدولية، وقرر البعض الآخر وجوب احترام القاعدة القانونية اللاحقة فى الترتيب الزمنى سواء أكانت مقررة فى معاهدة منشور أم فى التشريع .

تطبيق المعاهدات فى مصر :

نصت المادة 151 من دستور جمهورية مصر العربية الصادر فى 11 سبتمبر سنة 1971 على أن " رئيس الجمهورية يبرم المعاهدات ويبلغها مجلس الشعب مشفوعة بما يناسب البيان، وتكون لها قوة القانون بعد ابرامها والتصديق عليها ونشرها وفقاً للأوضاع المقررة، على أن معاهدات الصلح والتحالف والتجارة والملاحة وجميع المعاهدات التى يترتب عليها تعديل فى أراضى الدولة، أو التى تتعلق بحقوق السيادة أو التى تحمل خزانة الدولة شيئاً من النفقات غير الواردة فى الميزانية تجب موافقة مجلس الشعب عليها " .

ولا يحتوى الدستور المصرى على نصوص عامة تنظم العلاقة بين القانون الدولى وبين النظام القانونى المصرى، وانما حدد فقط طريقة ابرام المعاهدات ونفاذها .

ولكى توضح شروط نفاذ المعاهدات فى مصر نميز بين نوعين منها :

( أ ) المعاهدات قليلة الأهمية – وهى غير المعاهدات المنصوص عليها فى المادة 151 من الدستور . وهذه تسرى فى مصر إذا ما تم التصديق عليها بواسطة رئيس الجمهورية ونشرت فى الجريدة الرسمية .

ولم يشترط الدستور بالنسبة لهذه المعاهدات اصدارها على هيئة قانون واكتفى بتطلب نشرها بعد التصديق عليها حتى يتم علم الكافة بها .

 ( ب ) المعاهدات الهامة – وهى التى ورد عليها النص على سبيل الحصر فى المادة 151، وهذه لا تنفذ فى مصر الا بموجب عمل مشترك من رئيس الجمهورية ومجلس الشعب . فيجب أن يوافق عليها مجلس الشعب وأن يصدق عليها رئيس الجمهورية، هذا فضلاً عن نشرها فى الجريدة الرسمية .

ويقوم رئيس جمهورية مصر العربية بالتصديق على المعاهدات، ويتم النشر بقرار من وزير الخارجية .

ولقد استقر القضاء المصرى على تطبيق أحكام المعاهدات الدولية متى استوفت شروط نفاذها على اعتبار أن لها قوة القانون .

ففى حكم صدر من محكمة النقض المصرية فى 15/6/1956 طبقت المحكمة معاهدة دولية هى الاتفاق الخاص بمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، ورأت المحكمة فى حكم آخر صدر فى 8/3/1956 " أنه لما كان الوفاق المعقود بين حكومتى مصر والسودان قد صدق عليه مجلس النظام نشر فى الوقائع كما نشربمجموعة القوانين والقرارات المصرية فانه يكون قانوناً من قوانين الدولة . وقضت محكمة استئناف القاهرة بتاريخ 21/5/1957 أن أحكام معاهدة فارسوفيا سنة 1929 المتعلقة بالمسئولية عن النقل الجوى الدولى لا تسرى فى مصر الا من تاريخ أنضمام مصر إليها بموجب القانون رقم 593 لسنة 1955 .

حالة اصدار تشريع مخالف لاحكام معاهدة دولية :

من المتصور أن يصدر المشرع الوطنى تشريعاً يخالف به نصوص معاهدة سارية فهل تلتزم المحاكم بتطبيق نصوص تشريعها الوطنى أم تعطى الأولوية لنصوص المعاهدة؟

استقر العرف الدستورى فى دول كثيرة على اعطاء المعاهدة السارية قوة القانون فقط فى داخل الدولة، وعلى تطبيق أحكام القوانين الوطنية إذا كانت لاحقة للمعاهدة ومخالفة لها. ويضيف الفقهاء أن فى أصدار تشريع لاحق لمعاهدة ومخالف لها ما يستظهرمنه ارادة المشرع الوطنى فى التحلل من أحكام تلك المعاهدة وعدم التقيد بها .

ومع ذلك بدأت بعض الدساتير الحديثة تنص صراحة على أولوية تطبيق المعاهدات الدولية على التشريع الوطنى، وتعطى بذلك للمعاهدة قوة أعلى من قوة القانون الوطنى . ومن هذا القبيل المادة55 من الدستور الفرنسى 1958 التى تنص صراحة على أن المعاهدات الدبلوماسية المصدق عليها قانوناً والمنشورة لها أعلى من قوة القوانين الداخلية بشرط احترامها بواسطة الطرف الآخر .

أما بالنسبة للوضع فى مصر فمن الواضح أن المادة 151 من دستور 1971 لم تنص على أولوية المعاهدات على القوانين المصرية، بل جعلت للمعاهدات المصدق عليه والمنشورة فى مصر قوة القانون فقط . وعلى القاضى المصرى أن يبدأ بمحاولة التوفيق بين أحكام القانون اللآحق على معاهدة وبين أحكام تلك المعاهدة إذا ما وجد تعارضاً بينهما، وإذا استحال التوفيق وطبق القاضى التشريع المصرى المخالف للمعاهدة تحملت مصر المسئولية الدولية .

تطبيق القانون الوطنى بواسطة المحاكم الدولية :

تثور هذه المشكلة فى العمل إذا كان دستور دولة ما أو تشريعها يخالف قواعد القانون الدولى العام، واحتجت به الدولة أمام القضاء الدولى لتبرير مسلك اتخذته.

والقاعدة هنا أن المحاكم الدولية لا تلتزم بالتشريع الوطنى . ولقد أقرت ذلك محكمة العدل الدولية فى قضية المصايد بين النرويج والملكة المتحدة سنة 1951. فقررت أن تحديد المساحات البحرية أمر له صفة دولية، ولايمكن أن يترك للارادة المطلقة لكل دولة كما تظهر فى تشريعاتها .

على أنه من المقرر أن التشريعات الوطنية للدول المختلفة وكذلك المبائ القانونية المستقرة أمام المحاكم الوطنية – تساهم فى الكشف عن قواعد العرف الدولى، وفى معرفة مبادئ القانون العامة التى تأخذ بها الدول المتمدنة .

=======================================================

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق